الإثنين 2023/02/06

آخر تحديث: 14:06 (بيروت)

عودة "الكاتب الجالس"

الإثنين 2023/02/06
increase حجم الخط decrease
يحتفظ متحف اللوفر بمجموعة هائلة من القطع الفنية، أشهرها قاطبة أربعة: لوحة موناليزا، تمثال الكاتب الجالس، تمثال فينوس الميلوسية، ونصب نصر ساموثريس. اكتُشف "الكاتب الجالس" في سقارة في 1850، ودخل اللوفر في 1854، وأضحى منذ ذلك التاريخ التحفة الأشد جاذبية في الجناح المصري، ولم يخرج من باريس منذ ذلك التاريخ، إلى أن حلّ في العام الفائت استثنائياً في مدينة لانس، شمالي فرنسا. هكذا انتقل هذا التمثال ذائع الصيت إلى فرع من فروع اللوفر المحلية في مطلع شباط 2022، وانشغلت وسائل الإعلام الفرنسية يومها بهذا الانتقال، ومنذ بضعة أيام، عاد من لانس إلى باريس، واحتفلت وسائل الإعلام الفرنسية بعودته إلى داره.

 

يعود الفضل في اكتشاف هذا التمثال وحفظه إلى عالم الآثار الفرنسي أوغست مارييت الذي جاء إلى مصر في 1850 موفداً من متحف اللوفر لاقتناء مجموعة من المخطوطات القبطية، غير أن هذا المشروع لم يتحقّق، فاستغلّ المال المخصّص له للتنقيب في سقارة، وشرع للعمل في هذا الموقع في 20 تشرين الأول، واكتشف سريعاً مجموعة من الآثار، منها تمثال الكاتب الجالس الذي عثر عليه في تشرين الثاني كما روى في تقريره. واصل الباحث العمل، وكشف عن سرابيوم سقارة، وهي مقبرة مصرية قديمة مكرسة للثور المقدس المسمّى أبيس، فلمع اسمه، وعُيّن أميناً مساعداً في اللوفر في 1855، وعاد في 1857 إلى مصر، والتقى بالديبلوماسي الفرنسي فرديناند دليسبس الذي كان يعمل على تحقيق مشروع قناة السويس، فأعجب الأخير به، وجمعه بوالي مصر محمد سعيد باشا، خليقة محمد علي باشا، وشكّل هذا اللقاء تحوّلاً مفصلياً في مسيرته، حيث تبنّته السلطة المصرية، وعيّنته مأموراً لأعمال التنقيب، وأمّنت له ما يلزم لاستكشاف طيبة، كما عيّنته مديرا لمتحف بولاق. بقي مارييت مثابراً على تعهد متحف الآثار حتى وفاته في 1881، وجرى تأبينه رسمياً في مصر، وتمّ دفنه في ناووس، عند مدخل المتحف الذي أسّسه وأداره.

لا يبرز تمثال "الكاتب الجالس" المحفوظ في اللوفر في حجمه، فطوله 54 سنتيمتراً، وعرضه 44 سنتيمتراً، غير أن قوّته تمكن في أسلوبه المتقن الذي يشهد للبراعة المذهلة التي بلغها الفن المصري في سالف الزمان. ويعود هذا التمثال إلى زمن الأسرة الملكية الرابعة، أو الأسرة الخامسة، أي إلى عصر أهرامات الجيزة، وعمره اليوم زهاء 4500 سنة. يُعرف باسم "الكاتب الجالس"، ويمثل رجلاً عاري الصدر يقتصر لباسه على إزار يمتد من خصره حتى أعلى ركبتيه. يجلس هذا الرجل في وضعية القرفصاء، ممسكاً بيده اليسرى لفافة من ورق البردي، وبيده اليسرى أداة كتابة ضاع أثرها، وهي قطعاً فرشاة القصب المستخدمة في الكتابة، أي القلم القديم. صُنع هذا التمثال من الحجر الجيري، وتمّ تلوينه برهافة: الجسد عسلي زهري، والإزار أبيض، والشعر أسود، وكذلك الحاجبان ورموش العينين. ولا تقتصر صناعة هذا النصب على الحجر الجيري، إذ جعل النحات حلمتَي الصدر من مادة الخشب، كما جعل العينين من مواد متعددة، منها قطع من معدن المغنيزيوم الأبيض، وقطع من الكريستال الصخري، إضافة إلى بعض المواد العضوية، وعمد إلى تثبيت كلّ عين في موقعها بمشبك نحاسي.


لم يتمكّن أهل الاختصاص من تحديد هوية هذا الرجل بسبب غياب أي كتابة هيروغليفية مرافقة لتمثاله، ولا يسمح التقرير العام الذي تركه مُكتشفه بتعريف دور هذا الرجل ووظيفته في هذا الموقع الجنائزي. عُثر على هذا التمثال على مقربة من ناووس خاص بأحد كبار رجال السلطة، ويُدعى "كاي". كما هو معروف، كان العديد من الملوك المصريين ورجال الحكم "يصوّرون" المقرّبين منهم كي يرافقوهم في الآخرة، وكان الكتبة من هؤلاء المقرّبين، وقد عملوا في جباية الضرائب، كما عملوا في حقول الإعمار والصناعة والتجارة والحرب. في عهد الأسرة الخامسة، برز اسم "خوويوي" الذي كان "مسؤولاً عن أشغال الملك"، "كاتب السجلات الملكية"، و"مدير الكتبة". وفي عهد الأسرة السادسة، برز اسم "دجاو" الذي عُثر على قبره في قرية دير الجبراوي التابعة لأبنوب في محافظة أسيوط، وكان "مدير الكتبة الملكيين"، وكاهناً قارئا". ويوحي حجم تمثال اللوفر بأنّ صاحبه لم يكن ناسخاً فحسب، بل واحداً من هؤلاء المحظيين الكبار.


من جهة أخرى، لا يمثّل هذا التمثل العظيم نموذجاً فريداً من نوعه، غير أنه الأشهر من دون شك. يحتفظ متحف الفن المصري في القاهرة بتمثال من الطراز نفسه عُثر عليه كذلك في مقبرة سقارة، ويعود إلى الى بداية عهد الاسرة الخامسة، وهو عبارة عن كتلة واحدة من الحجر الجيرى الملوّن، ويتميّز أيضاً بتقنيّة عالية في صناعة العينين المكّحلتين بالنحاس الأخضر. يعتمر "ناسخ القاهرة" شعراً مستعاراً فحمي اللون، ويبدو أنه كان بذقن مستعارة سوداء سقطت عنه ولم يبق منها أثر، كما أنه كان يلبس عقداً بقي منه ظلّه حول أعلى الصدر، وقد صيغت ملامح وجه تبعاً للمثال المصري الكلاسيكي البديع.

ويحتفظ متحف برلين بتمثال من الغرانيت الوردي يستعيد أيضاً وأيضاً نموذج الكاتب الجالس القرفصاء، ويمثّل كاتباً يُدعى "درسندج". ويحتفظ متحف مكتبة الإسكندرية بتمثال مشابه يمثّل كاتباً يُدعى "تب إم عنح". كما يحتفظ متحف الأقصر بتمثال آخر من هذا الصنف، يمثّل "أمنحتب بن حابو"، الكاهن والمهندس والكاتب الذي تولى أيضا العديد من المناصب الرسمية في عهد الملك أمنتحب الثالث، تاسع فراعنة الأسرة الثامنة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها