الإثنين 2023/02/06

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

ستيفان زفايغ في "عنف الديكتاتورية".. البرغشة ضد الفيل

الإثنين 2023/02/06
ستيفان زفايغ في "عنف الديكتاتورية".. البرغشة ضد الفيل
لجأ الكاتب إلى التاريخ ليطلق صرخة تحذير ضد الخطر المقبل
increase حجم الخط decrease
"عنف الديكتاتورية"، أحد أهم الكتب التي تقدّم درساً بليغاً في مقاومة الطغيان. كتبه الروائي النمساوي ستيفان زفايغ بعد وصول النازيين إلى السلطة في العام 1933، عن طريق انتخابات ديموقراطية، لكنهم حولوا ألمانيا إلى دكتاتورية تنافس الستالينية في عنفها وبشاعتها. وقد لجأ الكاتب إلى التاريخ ليطلق صرخة تحذير ضد الخطر المقبل، ونشر بعد ثلاثة أعوام كتابه بعنوان" كاستيلو ضد كالفن، او ضمير ضد العنف"، واختار له فترة زمنية تعود إلى أربعة قرون، ليتناول سيرة الشخصية البارزة في تاريخ الكنيسة جان كالفن، الذي هرب من فرنسا إلى سويسرا، خوفاً من محاكم التفتيش الكاثوليكية، بعد اعتناقه المذهب البروتستانتي، فالتحق بكاتدرائية جنيف كقسيس، ثم سيطر خلال فترة وجيزة على الكنيسة، وصار لا صوت يعلو فوق صوته، وتحول داعية الإصلاح إلى طاغية. ولم يجد من يقف في وجهه غير سباستيان كاستيليو، المثقف المثالي الذي كان من بين أنصاره في البداية، لكنه لم يتحمل الطغيان وقمع الحريات. هو فقير، نكرة، صفر، شخص لا وجود له، رجل بلا سلاح يريد أن يقاتل كافلن ويهزمه بمفرده، في حين بات كالفن حليف سياسي للمدن السويسرية الاتحادية، والبروتستانتية العالمية اختارته قائدا روحيا لها، والملوك والأمراء تسابقوا على كسب حظوته، بعدما بنى أقوى تنظيم للمسيحية في أوروبا إلى جانب الكنيسة الكاثوليكية. وبهذا صار الهجوم عليه بالخطورة ذاتها التي يشكلها التهجم على القيصر أو البابا.

كاستيليو بلا أتباع يؤيدونه أو يدعمونه، ولا حزب، ولا تقدّم له الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية أي دعم، ولا أحد من أصحاب المقامات الرفيعة يسانده، إلا أنه لبّى نداء ضميره الملح، ورفع صوته عالياً لصالح المحرومين والمضطهدين، ورفض أن يكون للحكام في هذه الأرض حق ملاحقة أي إنسان بسبب عقيدته أو رأيه. ووجد نفسه في الساعات الحاسمة وحده من دون أحد يقف وراءه سوى ظله، وليس لديه سوى تلك الملكية غير القابلة للبيع الخاصة بالمبدع المناضل: ضمير لا يلين يسكن روحاً لا تهاب شيئاً، مدفوعاً بمقولة "لن يكون بوسع التاريخ أن يدرك، أننا سوف نضطر إلى العيش مجددا في هذه الظلمات، بعدما كانت الأنوار قد سطعت ذات مرة".

تيقن كاستيليو منذ البداية من عدم نجاح كفاحه ضد كالفن، وصار اسمه على ألسنة خصومه "الرجل الذي اختاره الشيطان"، إلا أنّه على حد قول الكاتب النهضوي الفرنسي ميشيل دي مونتاني "ثمّة خسارات ظافرة تنافس الانتصارات"، وعلى هذا سارت معركته ضد كالفن، الذي اتهمه علانية أنه بمكابرة متعصّبة قتل انساناً، وبالتالي اغتال حرية الضمير في حركة الإصلاح (المذهب البروتستانتي)، وبقيت المعركة بين الطرفين خالدة في ذهن كل عاقل، باعتبارها تتجاوز كالفن وكاستيليو إلى التسامح ضد اللاتسامح، الحرية ضد الوصاية، الإنسانية ضد التعصب، الفردية ضد الآلية. وحين كتب زفايغ هذا الكتاب أدرك ببعد نظر مأسوي الوبال الذي يريد الكلام النازي تعميمه في أوروبا، وسمع قرقعة السلاح وراء الخطاب المتعصب، ولا بد أن عقله حدثه أنه من هذا الحقد ستندلع الحرب المقبلة، وهذا ما حصل حيث قام هتلر بشن الحرب العالمية الثانية، لكن الذين أدركوا هذه الحقيقة باكراً لم يتجاسروا على الكفاح من أجلها، وهكذا "فالعارفون ليسوا الفاعلين، والفاعلون ليسوا العارفين"، ولم يمنع هذا كاستيليو من المغامرة بمصيره، والمخاطرة بحياته، ليقول كلمته من دون تعصب، برغم أنه كان مهددا طيلة الوقت من المتعصبين.

تذهب المقدمة العامة للكتاب إلى خلاصات، من بين أهمها سبب ميل الكفة نحو كالفن وهزيمة كاستيليو، ويتمثل ذلك في أن المتحزبين لا يولون أهمية للعدالة، إنما للنصر فقط، إنهم لا يريدون إعطاء الحق، بل أن يحتفظوا به. ويستشهد بالمفتش الكبير في إحدى روايات دوستويفسكي، الذي يؤكد بجدلية صارمة أن معظم الناس يخشى، في الواقع، حريته الذاتية. وتتوق الغالبية الكبرى من البشر إلى برمجة العالم آلياً من خلال نظام صالح لكل أوان. ولذلك تبقى نزعة انتظار المنقذ تمهد الطريق لكل الأنبياء الاجتماعيين والدينيين. وثمة وقفة أخرى عند النقطة التي يفقد فيها الانسان الثقة في القوة الكامنة الملازمة لحقيقته، ويلجأ إلى العنف الوحشي، فهو بذلك يعلن الحرب ضد الحرية الإنسانية، أياً كانت الفكرة التي يطرحها، فمن اللحظة التي يتم فيها اللجوء إلى العنف لا تعود الفكرة مثالية، بل تغدو وحشية. ويتساوى القرن السادس عشر في نظر الكاتب في ايديولوجيته العنيفة مع القرن الماضي، لكنه "عرف نفوساً حرة وغير فاسدة"، وعندما يقرأ المرء رسائل أهل المعرفة في تلك الحقبة، يشعر بنفسه متضامناً مع حزنهم العميق تجاه الاضطراب الناشئ عن العنف، ويتعاطف مع تقززهم من الدوغماتيين وبلاغاتهم الغبية الأشبه بدعايات السوق، وهي تعلن "ما نعلّمه نحن هو الحق، وما لا نعلّمه هو الخطأ".

وفي المدى الطويل يبقى العزاء في الاستقلالية الأخلاقية للإنسانية، وهي غير قابلة للتدمير، بدليل أنه لم يفلح أحد حتى الآن في أن يجبر البشرية في عموم الأرض، بطريقة ديكتاتورية، على تبني دين واحد أو فلسفة واحدة أو مفهوم كوني واحد. وغير المعاني الكثيرة التي يذهب إليها زفايغ من وراء كتابة هذا العمل، يثني على ما يصفه بـ"البطولة الأخلاقية" لكاستيليو، الذي كتب منشور التسامح، مطالباً بحقوق الرأي، قبل جان لوك وهيوم وفولتير والعديد من أمثالهم بمدة طويلة، ويرى أن معارضة كاستيليو ضد حكم الإعدام تتفوق على معارضة فولتير في حادثة كالاس وزولا في قضية دريفوس، ذلك أن فولتير كان يعيش في عصر تسامح إنساني. بالإضافة إلى زولا الذي سانده، كجيش غير مرئي، إعجاب أوروبا بأسرها، بل العالم بأسره. وهذا الفارق حاسم، لأن كاستيليو عانى الأمرين من اللاإنسانية العنيفة القاتلة التي ميزت عصره.

حظي الكتاب، الذي نقله إلى العربية الكاتب فارس يواكيم، بتقدير شديد في وقته، ووجه الكاتب الألماني الكبير توماس مان رسالة إلى زفايغ يعبر فيها عن إعجابه بأسلوب ومضمون الكتاب، الذي جمع "عبر مادة تاريخية كل ما يدعو إلى التقزز والتعاطف في عصرنا"، بل في كل العصور لأن الديكتاتورية تكرر نفسها على اختلاف الزمان والمكان، وهي الحقيقة التي لم تمنع الكاتب من وضع حد لحياته العام 1942 بمعية زوجته في البرازيل، التي هاجرا إليها خلال اندلاع الحرب العالمية الثانية. ورغم أنّه أحبّ تلك البلاد التي وصفها بـ"الجنة الموعودة التي لا يجيد أهلها سوى الحب والرقص"، فإن صبره قد نفد بانتظار "الفجر" الموعود. ويبقى أن انتحار زفايغ لا يذهب في الاتجاه نفسه الذي سار عليه كاستيلو الذي خاض المعركة ضد كالفن، وهي معركة بين تيارين ومنهجين، بين القمع والحرية، بين العنف والحوار، بين التعصب والتسامح، وبين الدكتاتورية والديموقراطية. معركة "البرغشة ضد الفيل" حسب كاستيليو الذي دوّن هذه العبارة بخط يده، ليوضح لأحد أصدقائه قوة الخصم الذي تحداه باسم حرية الفكر الإنساني.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها