الجمعة 2023/02/24

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

"نساء يتحدّثن" لسارة بولي.. في انتظار الرجال

الجمعة 2023/02/24
"نساء يتحدّثن" لسارة بولي.. في انتظار الرجال
أحداث حقيقية وقعت في مجتمع/مستعمرة مينونايت، وهي طائفة مسيحية متشددة في بوليفيا تناهض التكنولوجيا والتطوّر
increase حجم الخط decrease
يبدو الأمر كما لو أن الكندية سارة بولي تحاول تطبيق ما اختبرته كممثلة في أفلام مختلفة تماماً مثل "الآخرة الحلوة" (1997، أتوم إيغويان) ودراما الخيال العلمي "نسج" (2009، فينتشنزو ناتالي) على مسيرتها الإخراجية أيضاً. بدءاً بدراماها الرقيقة عن مرض الزهايمر "بعيداً عنها" (2006)، مروراً بكوميديا "خذ هذا الفالس" (2011)، الذكية بقدر ما هي حزينة ورومانسية، وصولاً إلى بحثها الوثائقي الرائع والغامض عن والدها البيولوجي في "حكايات نرويها" (2012)، أو في السلسلة التلفزيونية القصيرة النسوية الغاضبة "الياس غريس" (2017)، التي كتبت لها السيناريو استناداً إلى رواية لمارغريت أتوود.. أفلام وأعمال مختلفة تماماً ظاهرياً؛ إلا إنه في واقع الأمر ثمة فكرة وحيدة أخرى تجاور ذلك البحث المضطرب عن طريقة للخروج من الهياكل والتوافقات السائدة، تتنوع مرة بعد أخرى في أعمال بولي الإخراجية: منظور أنثوي يتجذّر بشكل متزايد.

"نساء يتحدثن"(*)، فيلم بولي الجديد المستوحى من إحدى أكثر الروايات مبيعاً للعام 2018 للمؤلفة الكندية ميريام توز، يمثّل ذروة هذا التطوّر النظري. بالنسبة للرواية، المستندة إلى أحداث حقيقية وقعت في مجتمع/مستعمرة مينونايت (طائفة مسيحية متشددة تناهض التكنولوجيا والتطوّر) في بوليفيا، لا تتعلّق سرديتها فقط باغتصاب فتيات ونساء المجتمع المنعزل من قبل رجاله (تحت تأثير مخدّر الأحصنة) بين العامين2005 و2009، بقدر ما تتعلّق بقرار النساء الصعب حول كيفية التعامل مع صدماتهن وندوبهن والرجال المعتدين بعد انكشاف حقيقة مرتكبي تلك الأفعال، التي ليست من فعل الشيطان ولا الأشباح ولا من بنات الخيال المجاني والجامح للنساء.

إثر لحظة الوعي الفارقة هذه، تجتمع النساء الأمّيات للتصويت على قرار من ثلاثة: الصفح والنسيان وكأن شيئاً لم يكن، أو البقاء في المستعمرة والقتال ومعاقبة الرجال على أفعالهم الشنيعة، أو الرحيل عن المستعمرة مع أبنائهن وبناتهن الصغار. يحدث هذا في غياب الرجال، الذين ذهبوا إلى قسم الشرطة المحلية لدفع كفالة المتهم بالاغتصاب، وأمهلوا النساء يومين للصفح عنه "حتى لا تصيبهن لعنة الربّ ويخرجن من ملكوته".

تنقل بولي رواية توز مستعينة بطاقم تمثيلي من الصفّ الأول ممثلاً في روني مارا وكلير فوي وجيسي باكلي وفرانسيس ماكدورماند (الأخيرة حصلت على حقوق الرواية وأنتجتها مع براد بيت) إلى إطار سينمائي يستحضر أولاً وقبل كل شيء روابط ومشابهات مع "فيلم طائفة" آخر هو "الشاهد الوحيد" (1985، بيتر واير)، حيث يواجه ضابط الشرطة جون بوك (هاريسون فورد) امرأة من طائفة الأميش (كيلي ماكجليس) بسؤال مشابه: البقاء أم الذهاب. لكن على عكس فيلم واير، فإن حكاية بولي تحدث كلها في تلك الأثناء النقاشية. تصوّت النساء ويخسر الخيار الأول على الفور. لكن الإثنين الآخرين يتعادلان في الأصوات. ويجب أن تجتمع ثماني نساء في سقيفة لمناقشة ما يجب عليهن فعله وتحليله ومناقشته.


يُشرّح الفيلم نظاماً اجتماعياً صغيراً وعلاقاته. يحدث هذا في المقام الأول عبر محادثات ممتدة بين الدائرة المختارة من النساء، حيث تُسرد قصص المجتمع عبر التاريخ العائلي، وتُتناول المآسي والصدمات العائلية عبر كشف التسلسلات الهرمية الحاكمة لنظام اجتماعي يهيمن عليه الرجال. يشبه هذا النهج أفلام المحاكم، ذلك النوع الذي رافق السينما الأميركية منذ بدايتها، خصوصاً عندما تستبقي النساء الرجل الوحيد الجدير بالثقة، أوغست (بن ويشاو)، معلّم مدرسة المستعمرة الذي عاش لفترة طويلة خارجها بسبب نبذ والدته لأنها تجرّأت سابقاً وتحدّثت بصوتٍ عال في وجه الرجال. يعود الآن أوغست لمساندة النساء في تقرير مصيرهن، عبر تنظيمه الاجتماع وتدوينه، لأن النساء لا يُجدن القراءة ولا الكتابة.

هذه المحادثات، التي تسعى مراراً وتكراراً إلى معالجة قضايا دينية وفلسفية ونفسية، يمكن أن تتلاشى بسهولة، لا سيما في شكلها المسرحي الغاضب، لكن بولي تنسج في نصّها (المسرحي جداً) قوسين ناظمين من التوتّر، بالإضافة إلى أسئلته الأساسية، يعطيان المحادثات إلحاحاً ودينامية: اقتراب عودة الرجال من المدينة، وقصة حب ناشئة تنتهك أعراف المستعمرة.

"المواجهة المنتظرة"، تلك الموتيفة الويسترنية الكلاسيكية، تخيّم تماماً على فيلم بولي، خصوصاً مع المدى الريفي الذي يصوّره لوك مونبلييه بشكل ملحمي والتركيز بشكل أكبر على الطقوس اليومية البسيطة البعيدة من التكنولوجيا بين أفراد المستعمرة والموسيقى التصويرية لهيلدور غونادوتير، والتي يؤكّد عليها بمهارة من خلال معزوفات منفردة على الغيتار، ثم هناك ذلك الملمح الويسترني من الجيل الأخير من أفلام الويسترن المعاصرة، مثل "انقطاع ميك" (2010، كيلي رايكارد)، حيث تعمل نساء مأزومات على تجاوز ملمّاتهن من أجل تمكين أنفسهن وفرض قرار.

ومع ذلك، على غرار ما يحدث في فيلم رايكارد، فإن ما يحدث هنا أقل إثارة من كيفية حدوثه. كل خيار يُناقش باستفاضة ويُدافع عنه بمقدار الإيمان الذي تحمله المرأة التي تتحدث عن خيارها. ثم تتغيّر وجهات نظر الشخصيات، باستمرار. نشاهد التثمير التدريجي للأفكار أثناء حديث النساء مع بعضهن البعض، ومخرجات هذه الديموقراطية الحيّة النموذجية.

عملية مثيرة للاهتمام والمتابعة (والملل أحياناً)، لأن بولي تحافظ على التوازن بين عالم الأمثولة والواقع القاسي، فالأفكار لا تنحصر فقط في الخطاب الأساسي كما في مسرحية "في انتظار غودو" لصامويل بيكيت وأسئلته الوجودية حول التمثيل أو عدم التمثيل، وإنما لأن بولي والرواية يفرضان قراراً جماعياً للتصرّف. والذي في الواقع ظهر بشكل مختلف إلى حد ما عن فيلم بولي ورواية توز، لأن الرجال في بوليفيا لم يعودوا ولم يخرجوا بكفالة، بل حُكم عليهم بالسجن لمدة 25 عاماً. لكن هذا لا يهمّ كثيراً في فيلمٍ يحاول تقديم درس تعليمي عن تمكين النساء وإسماع أصواتهن ونقد القمع الأبوي في زمن ما بعد "أنا أيضاً".

(*) رُشّح الفيلم لجائزتي أوسكار، أفضل فيلم وأفضل سيناريو مقتبس. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها