السبت 2023/02/11

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

"عنكبوت مقدّس" لعلي عبّاسي.. الفيلم كإدانة

السبت 2023/02/11
increase حجم الخط decrease
بفضل الإلحاح (والنجاح)، أصبحت أفلام القتلة المتسلسلين نوعاً سينمائياً في حد ذاتها. بعضها خيال خالص (أو بالكاد)، مثل "صمت الحملان" (1991، جوناثان ديم)، وأخرى، مثل "زودياك" (2000، ديفيد فينشر)، تستفيد من حالات مأخوذة من الواقع، والتي، كما صار معروفاً، غالباً ما تتفوّق على الخيال السيمائي من حيث الإبداع والوحشية. ضمن هذا النوع الفرعي الذي يتنقل بحرية بين التحقيق البوليسي والفظاعة الإنسانية، يتمتّع فيلم "عنكبوت مقدّس" ببعض الميزات التي تميّزه عن البقية.

البداية من أصله، فهو إنتاج أوروبي آسيوي مشترك من كتابة وإخراج الإيراني الدنماركي، علي عبّاسي، اختارته الدنمارك لتمثيلها في جوائز الأوسكار 2023. تدور أحداثه في إيران في بداية القرن الحادي والعشرين، وتستند إلى قضية سعيد هنائي، الرجل الذي بين العامين 2000 و2001، قتل 16 امرأة في مشهد، أقدس مدينة إيرانية، مُبرّراً جرائمه بـ"تطهير المدينة من الدنس".

عبّاسي، المعروف عالمياً بفضل فيلمه الرائع والغريب "حدّ" (2018)، يستخدم قصة سعيد (يغيّر الفيلم اسمه الأخير إلى عظيمي) لرسم جدارية تنسجم مع المناخ الاجتماعي للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أكثر منها مع تلك التي وقعت خلالها الأحداث الفعلية. وهذا يعني أنه فيلم يسعى لفضح وإدانة الظروف المعيشية للنساء في البلدان التي تسودها الثقافة الإسلامية الراديكالية. نحن هنا نتعامل مع إيران، عدو الغرب، لكن الظروف يمكن أن تتشابه مع دول أخرى "صديقة" مثل السعودية أو مصر. وبهذه الطريقة، لا يعمل "عنكبوت مقدّس" فقط كفيلم بوليسي (أفضل ما في الفيلم يأتي من هذا الخطّ تحديداً، حيث تضطلع بدور المحقق صحافية تلعب دورها باقتدارالممثلة الإيرانية المغضوب عليها زار أمير إبراهيمي، الحائزة على جائزة أفضل ممثلة من مهرجان كانّ السينمائي)، وإنما أيضاً كبيان سياسي واجتماعي.

لا يتعلق الأمر هنا باكتشاف القاتل الذي يعرفه المُشاهد منذ الدقائق الأولى من الفيلم. على أي حال، فالتشويق مدعوم بالتحقيق الذي تجريه الصحافية والتي تواجه، لمجرّد كونها امرأة، كل العقبات الممكن تخيّلها في مجتمع ثيوقراطي وكاره للنساء. في الواقع، من الواضح منذ البداية أن المحرّك الرئيسي للقاتل (عامل بناء ومحارب قديم لا يغفر لنفسه خطيئة بقائه على قيد الحياة بدلاً من الموت شهيداً) هو الحاجة إلى "تطهير" المدينة المقدسة من النساء اللواتي يبعن أجسادهن ويتعاطين المخدرات في مكانٍ ليس ببعيد عن المكان الذي يمدح فيه الرجال - الرجال أنفسهم الذين هم عملائه – الإمام الرضا ويتضرعون إلى الله.

ما تفعله الصحافية ليس أكثر من تأكيد ما افترضته بالفعل: أن الشرطة المحلية لا تحقّق في القضية بجدّية لأن لا مشكلة لديها مع مريض نفسي طليق يقوم بالعمل القذر نيابة عنها، وأن السلطات الدينية لا تعتقد أن الأمر سيء لهذه الدرجة، ففي النهاية تستحق النسوة الضالات جزاءً على فسقهن وضلالهن. لكن المفاجأة الأكبر التي ستقابلها الصحافية أن جزءاً كبيراً من المجتمع سيحوّل القاتل إلى بطل.


أتمّ عبّاسي فيلمه قبل مقتل مهسا أميني، الشابّة الكردية التي راحت ضحية "عدم ارتدائها ملابسها بالشكل اللائق" وفقاً لشرطة الأخلاق الإيرانية، ومنها اندلعت حركة احتجاجية واسعة داخل إيران ضد ديكتاتورية نظام الملالي. إلا أن أساس حبكة فيلمه يتأسّس على تحيّز السلطات ضد النساء ومن ثمّ تساهلها في الوصول والكشف عن القاتل الطليق، الأمر الذي يستدعي وصول صحافية من طهران للتحقيق بنفسها بل وحتى استدراج القاتل لارتكاب جريمة تكون هي ضحيتها. في طهران، تعيّن على الصحافية التعامل مع رئيس تحرير متحرّش. في مَشهد، تقابل ضابط شرطة متعطّشاً يراها صيداً سهلاً. بصفتها امرأة غير متزوجة، رفض موظف استقبال الفندق الحجز لها في البداية. بالكاد تستطيع أن تخطو خطوة من دون توبيخها أو مضايقتها.

بطريقة ما، يشكّل "عنكبوت مقدّس" نسخة إيرانية من "تاكسي درايفر" (1976، مارتن سكورسيزي)، لأن المحافظين والشرطة هنا يتعاطفون مع فظائع ترتكب بحق النساء "الفاسقات". ترافيس بيكل يتحوّل سعيد عظيمي في النسخة الإيرانية. غير أن العنف هنا فائض وواضح. امرأة تُخنق بحجابها حتى تموت. عيون مفتوحة على مصراعيها. امرأة أخرى تضرَب حتى تغرق في دمائها وتلفظ الأنفاس. كل هذا في لقطات مقرّبة تأخذ وقتها على الشاشة. تتراكم الفظائع في "عنكبوت مقدّس". العنف ضد المرأة الإيرانية شرس وقاتم، لكن تصويره هنا مباشر وصادم.

في الواقع، العنف في هذه القصة منتشر في كل مكان، في العلاقات بين المومسات وزبائنهن، في نظرة الرجال إلى الصحافية، في الأحياء الفقيرة لمدينة مشهد ومدمنيها. القاتل نفسه يعاني "تروما" من سنوات الخدمة في الخطوط الأمامية أثناء الحرب بين إيران والعراق. لذلك، فإن إخفاء أفعاله سيكون غير متسق من الناحية الجمالية. والمسألة هنا، بحسب عبّاسي الذي دافع عن اختياراته في مقابلة أجراها مع "المدن"، تتعلّق بضرورة عدم إشاحة النظر بعيداً وإظهار العنف ضد النساء الإيرانيات. بعبارة أخرى، لا يريد عبّاسي مجرد إنجاز فيلم تشويقي عن قاتل متسلسل، وإنما أيضاً صورة للمجتمع الذي أفرزه.

من خلال هذا المسار وتلك الرغبة في الإدلاء ببيان، يصبح الفيلم واضحاً قليلاً في نيّته الكشف عن بعض الانحرافات التي تتعرّض لها النساء الإيرانيات داخل منظومة الحكم الإسلامي. بطبيعة الحال، فإن مقتل مهسا أميني، الواقع بعد بضعة أشهر من العرض الأول للفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ"، يقول شيئاً عن راهنية الفيلم وقدرته على كشف صورة معيّنة للواقع. إلا أنه في الوقت ذاته، وبسبب الإلحاح على تظهير تلك الصورة (بما يتضمنه ذلك من مباشرة وفجاجة أحياناً)، يقع الفيلم فريسة لهذه الضرورة الخطابية، المُبرَّرة كعمل سياسي، لكن الأمر ينتهي بها إلى إضعاف قيمته السينمائية. حتى إنه يقع في بعض التجاوزات التي يمكن التحقق منها بسهولة من خلال مشاهدة الفيلم الوثائقي "ثم جاء عنكبوت" (2003، مازيار بهاري)، والذي يتضمّن شهادات مباشرة للقاتل وزوجته وابنه المراهق.

(*) يُعرض حالياً في بريطانيا ودول أوروبية أخرى. ويُعرض قريباً على نطاق عالمي عبر منصة "Mubi".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها