الأحد 2023/12/24

آخر تحديث: 07:36 (بيروت)

2023:من الانتظار المديد إلى إملاءات المنافي...أي حال للثقافة السورية

الأحد 2023/12/24
increase حجم الخط decrease
لا تفسح الصفحات الثقافية للصحف السورية الصادرة عن مؤسسات تتبع لوزارة إعلام نظام الأسد، عن تراكم ثقافي أو إبداعي مختلف عن السياق المعتاد، في ما نشرته طيلة عام 2023. بل إن السمة العامة لآلاف المواد هي الركون إلى الإيقاع الخبري، والميل إلى الخفة، مع استغناء غريب عن المواد النقدية والتحليلية، وتحول النبر العام للكتابة إلى صدى لما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي!

وفي قراءة الأخبار الثقافية ذاتها يكتشف المتابع أن ثمة مسعى لا يخفي وجهه لدى القائمين على المشهد الثقافي لأن يًظهروا البلاد مستمرة في النشاط، ولكن معقمة من أي إشارة لوجود أزمة ما. ومن المستحيل طبعاً توقع الحصول على أي إيحاء عن الحدث الذي أطاح باستقرار سوريا المزعوم سابقاً، وأمنها وأمانها الدائمين، ويمكن للقارئ ملاحظة أن السياسة العامة لهذه الصفحات تتعمّد عدم إيلاء أهمية لضرورة وجود مثقفين راسخين في المشهد، يشاركون في هذه الفعاليات (موضوع الأخبار)، وبما يؤدي إلى استنتاج يقول بأن المطلوب عند هؤلاء هو روتين الثقافة لا مضمونها أو شخصياتها.

في مواضع متعدّدة ضمن المشهد الثقافي والفني العربي، يعثر المتابعون على مساهمات سورية كثيفة تأتي من داخل البلاد، وعلى وجه الدقة مناطق سيطرة النظام، وفي طبيعة هذه المواد، لا يمكن الحصول على أي مؤشر يفيد أو يكشف الموقف السياسي لأصحابها، فقد اعتاد الجيل الذي ظهر على السطح بعد الثورة، وترعرع وسط موجات القمع، والقصف، والقتل، والاختطاف، وشح مقومات الحياة، والغرق في تفاصيل الحصول على الأود(المعاش)، أن يخفي آراءه بعناية، وألا يترك ثغرات تسمح للمخبر المثقف المتربص أن يُئَول المحتوى على هواه، هذا الحرص يُمكن صاحبه النجاة من ضغوط الداخل الرقابية، لجهة ألا يكون يُتهم بالتعاطف أو دعم الثائرين، فيتعرض للأخطار بسبب ذلك. وأيضاً بما يسمح له القيام بالأنشطة الضرورية في الخارج، طالما أن جزءاً كبيراً من أدوات النشر الإعلامي والثقافي العربية، أمست وبعد عودة النظام للجامعة العربية، لا ترحب بالنتاجات ذات الخطاب الفاقع، إن كان يدعم نظام الأسد أو يفعل العكس.

وفقاً لهذا الاستقراء المبني على مراقبة ما ينشره مثقفو الداخل خارج وطنهم، تبدو لوحة الثقافة المحلية معقدة، وغير قابلة للتفسير، إلا من خلال تجزئة التفاصيل إلى حدود الأشخاص أنفسهم، وبدلاً من الحديث عن ظهور تيار ما أو مجموعة ما، يصبح من الضروري تلمس التجربة الذاتية نفسها، و"البحبشة" فيها، والاشتغال على النتاج الإبداعي منفرداً.

ضمن هذا المسار يكشف العام المنصرم عن ثراء موضوعاتي وتقني في تجارب عدة، وصلت إلى المنصات التي يجري فيها تقييم من نوع ما، كالجوائز، والمؤسسات المانحة أو الممولة، وتلك التي تقدّم الاستضافات للكتاب والفنانين. الأمر الذي لا يلفت الانتباه لأصحابها بوصفهم أصحاب مشاريع مبشرة ومختلفة عن السائد فحسب، بل يعيد رصف المشهد الإبداعي السوري محتوياً القطع الناقصة منه، وعلى وجه الخصوص تلك التي غيبها استمرار حال الداخل على ما هو عليه منذ سنوات، وتحول عمل المؤسسات الثقافية العامة من التركيز على تنشيط الحال في منابرها وصالاتها ومسارحها، إلى الارتهان أكثر فأكثر للمشروع الإيراني الذي يستهدف المجتمع السوري، وهذا ما أظهرته الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال الفترة الماضية مع مؤسسات طهران الموازية أو ذات الاختصاص المشابه.

وفي السياق العملي، تلفت الانتباه تلك المزاحمة التي يقوم بها بعض المتنفذين ثقافياً في مقلب النظام، عندما يتركون المنابر الرسمية المتاحة لهم، ويتوجهون إلى منابر عربية فيحتلون صفحاتها، بغية إثبات الموجودية، وأيضاً بغية التكسّب في ظل الانهيار الاقتصادي العام، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر أنه في الإصدار الأخير لإحدى مجلات المسرح العربية المرموقة، ينشر رئيس تحرير مجلة (الحياة المسرحية) الصادرة عن مديرية المسارح في وزارة الثقافة، رسالة ثقافية من دمشق، كما يكتب كاتب ومخرج وسيناريست مادة تحليلية عن عرض في المسرح القومي، بينما أجرت إحداهن لقاءً مع مخرج مسرحي سوري!

في الجهة الأخرى، أي في الفضاءات التي انتشر فيها المثقفون المعارضون، لا يمكن العثور على اختلافات عما سبق، فقد صار من المعتاد أن يتداول هؤلاء أخباراً عن نشر مؤلفات بعضهم بلغات البلاد التي يعيشون فيها، كالألمانية والسويدية والفرنسية، وأن ينجز مسرحيون عروضاً هنا وهناك، وأن نقرأ عن أفلام يتم تصويرها أو نشاهد ما وصل منها إلى الصالات.
وعلى عكس نتاجات الداخل التي يبرع أصحابها في التقيّة، يشكل الوضع الإنساني والنفسي والحياتي الواضح ودون توريات، العمود الفقري لأغلب النتاج الثقافي المنجز في الخارج، مع تسجيل بعض الملامح المختلفة عما سبق، كالتخفف من حدة التفاصيل، والاشتغال على تطوير الأدوات الفنية المستخدمة في العملية الإبداعية ذاتها.

قد يبدو الكلام العام غير كافٍ لتوضيح التحولات التي تجري في هذا الفضاء أو ذاك، خاصة وأن هذه الوقفة السريعة لا تسمح بذكر التجارب وأصحابها، لكن التلخيص يضمر دعوة إلى الانكباب على دراسة النتاج الإبداعي والثقافي السوري في كل البقاع التي يجول فيها، خاصة وأن المساحات التي يتوجب على المتابع أن ينظر فيها تتسع في الداخل لتشمل مناطق النظام والسيطرات الأخرى، المستقرة كالشمال الشرقي الواقع تحت سيطرة وحدات حماية الشعب وكذلك الشمال الغربي الذي تسيطر عليه قوتان هما الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام، كما يتوجب متابعة الوضع في محافظة السويداء المنتفضة منذ خمسة شهور ضد سلطة الأسد.
كما يمكن إحالة المساحات في الخارج إلى حيث أسس اللاجئون لبقائهم، إلى أمد بعيد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها