الأحد 2023/12/17

آخر تحديث: 08:31 (بيروت)

استهلاك وتدوير المحتوى الشعري في مئوية نزار قباني

الأحد 2023/12/17
استهلاك وتدوير المحتوى الشعري في مئوية نزار قباني
نزار
increase حجم الخط decrease

يشعر المتابع للأنشطة الثقافية في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد، أنّ ثّمة جهة ما أصدرت تعميماً، واجب التنفيذ والالتزام، يقضي بإحياء ذكرى مئوية الشاعر الراحل نزار قباني، الأمر الذي يعني أن تقوم كل المؤسسات الثقافية والإعلامية بإحداث فعاليات تخص المناسبة.

الأمر ليس غريباً، فمن طبيعة المؤسسات الثقافية والإعلامية السورية أن تتبع التوجيهات، حتى وإن صدرت من غير المختصين، من دون أن يناقش أحد مضمونها، والجميع يعرف أن مصدر هذه الأوامر المسقطة من الأعلى لا يخرج عن دائرة القصر الجمهوري أولاً، ولا عن القيادة القطرية والأفرع الأمنية ثانياً وثالثاً، كما أن التنفيذ الذي يأخذ شكل فعاليات تقيمها إحدى مؤسسات وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب العرب أو مديريات الثقافة في المحافظات، لا يمكن منحه المرتبة الرابعة في سياق العملية الثقافية، فهذه أيضاً مؤسسات مسلوبة الإرادة تماماً، يتعيش موظفوها على الأشياء الحاضرة، ولا يشعر الموهوبون منهم بضرورة أن يبدعوا طالما أن حيواتهم منهوبة، وأنهم في مواجهة مستدامة مع فجور الوضع السوري العام، والأزمات المعيشية والاقتصادية، وهم فعلياً وبغض النظر عن التمتع بالجرأة في نقاش الأمور، لا يشعرون بأن هناك ما يستحق المغامرة في النقاش أو الجدال، فإذا ما صدر الإيعاز بات من الواجب القيام بما يحتويه، ولا بأس من الإطناب في حال توفرت الإمكانيات والمقومات.

العودة إلى الأجندات الثقافية المنقضية خلال السنوات الماضية تكشف حقيقة عن تواتر الفعاليات التي اتخذت من نتاج الشاعر الراحل أو حياته مضموناً لها، إذ لم تمر أي سنة من دون أن تقام ندوة هنا أو أمسية هناك عنه، لكن قراءة المحتوى تضعنا أمام حالة إعادة تدوير رهيبة! وعلى سبيل المثال، تتم مقاربة الموضوعات الوطنية والقومية في شعر نزار في ذكرى الجلاء أو ذكرى حرب تشرين "التحريرية" ثم تعاد قراءة القصائد ذاتها في ذكرى النكبة أو النكسة، ويمكن أن تؤلف حولها المؤلفات المكررة المحتوى.

وعلى القصائد الإنسانية والعاطفية ينطبق الأمر ذاته، وصولاً إلى تحري القصائد المغناة من شعره، وغير ذلك من الأنساق العامة، من دون أن يلاحظ المهتمون وجود ابتكار ما في الاختيار أو المعالجة، وصولاً إلى استمراء الاعتداء على كتب الشاعر والقيام بنشرها دون الحصول على الأذن من عائلته، أو المؤسسات المالكة للحقوق. (أنظر متابعة المدن: على الطريقة البعثية: تأميم نزار قباني).


مجلة المعرفة، الصادرة عن وزارة الثقافة، والتي تولى رئاسة تحريرها فايز الداية خلفاً للشاعر الراحل ناظم مهنا، كرست عددها الأخير للاحتفال بمئوية نزار، حيث احتوى عشرات المواد التي تجول كتابها بين شعره ونثره، والقضايا المثارة حولهما، إضافة إلى إعادة التمحيص وفق أسلوب صحافي في مسلسل نزار قباني الذي كتبه قمر الزمان علوش واخرجه باسل الخطيب وعرض في العام 2005.

وبالإضافة لمواد المجلة جاء الكتاب المرفق معها مكرساً للقصائد المغناة من شعره، تحت عنوان "الديوان المسموع" وهو من إعداد: فاطمة معراتية وتقديم: فايز الداية، حيث احتوى (بلا فهرس) على إحصاء للقصائد المغناة، مع ذكر أسماء المغنين والملحنين، كما ضمن في قسمه الأخير تجميعاً لعدد من الآراء لبعض المثقفين العرب عن تجربة الراحل أعدها الشاعر بيان الصفدي.

الأكاديمية السورية ماجدة حمود وفي سياق إحدى الفعاليات الأخيرة رأت-بحسب ما نقلت الصحافة المحلية- أن نزار قباني لم ينل حتى الآن اهتمام الدّارسين والنّقاد، وأن الدّراسات التي أحاطت بإبداعه "ما تزال في معظمها تقف على السّطح"، وينطبق مضمون هذا الرأي على مواد ملف مجلة المعرفة قاطبة، وبما فيها مساهمتها هي ذاتها فيه، إذ لا يمكن الاشتغال حتى أكاديمياً على الموضوعات الشعرية من دون الحصول على محركات تعمل بوقود الحرية، فلا توقفها مطبات الرقابة، ولا تزجرها العلامات المرورية الخارجة من عقول المثقفين المخبرين! ففي سوريا الأسدية إذا جرى وعمل أحد ما على التجربة (أي تجربة) فإنه لن يغامر بالغوص إلى العمق، بل سيفضل البقاء على السطح، حيث يتمتع بالمساحة الآمنة، في وسط مزدحم بالمتربصين!

هنا قد يسأل أحد ما عن توفر مادة مختلفة في الحقيبة "النزارية"، فبعد مرور 25 سنة عن رحيله، ومئة عام على مولده، ألا تبدو الموضوعات مستهلكة كلها؟

خارج المؤسسات الرسمية، مازال البعض ممن لا يعملون وفق التوجيهات الصادرة من الأعلى يجدون قطباً مخفية وغير مخفية تستحق أن يُنظر فيها، حيث يمكن العثور على مساهمات محترمة هنا وهناك.

 

ورغم انشغال المؤسسات الإعلامية المعارضة بالهموم السورية اليومية ولاسيما قضايا النازحين واللاجئين، وجد بعض الكتاب فرصة للنظر في تجربة نزار قباني من خلال الوقوف على عتبات مختلفة، حيث نشرت مجلة "العربي القديم" الصادرة في إسطنبول ملفاً خاصاً بمناسبة المئوية، احتوى على مساهمات لكتاب معارضين، حاولت بشكل عام معالجة الظاهرة من زوايا مختلفة، مع ابتعاد واضح عن الاستغراق بالثيمات المعتادة، وقد وفرت المجلة الفرصة للقارئ لكي يقرأ عن تفاصيل لا يعثر عليها في كل منصات النظام، حيث يكتب وعلى سبيل المثال لا الحصر الإعلامي محمود الزيبق في سياق مقالته التي تحمل عنوان "البورجوازي نزار قباني" عن أسباب منع نزار في فترة ما في وسائل إعلام الأسد الأب، فينقل عن وزير الثقافة الأسبق رياض نعسان آغا الحكاية ويقول: "في التسعينات حاول باسل الأسد الالتفاف على "البورجوازي"، واستقطابه؛ لتلميع صورة النظام، في الفترة التي كان يستعد فيها لوراثة والده، فوجهت له دعوة لأمسية شعرية في دمشق، حضرها باسل الأسد، وسرعان ما انسحب منها، حين قرأ نزار "السيرة الذاتية لسياف عربي" في "مكتبة الأسد"، ألغيت بعدها كل البرامج التي كانت قد أُعدت؛ لاستقبال نزار، وتكريمه في سوريا"!

كما وثق رئيس التحرير الناقد محمد منصور لفضيحة المسلسل التلفزيوني الذي أنتج عام 2005، وشكل بحسب الكاتب "أكبر اعتداء على سيرة شاعر سوريا الكبير وإرث عائلته ومدينته دمشق"!

 

كما يلفت الانتباه الموضوع الخاص بالذكريات أدلى بها الناقد المصري الراحل وديع فلسطين (1923- 2022) لمجلة "نصف الدنيا" الأسبوعية المصرية عقب رحيل نزار قباني، ونشرت تحت عنوان: "وديع فلسطين أنا أول من كتب عن نزار في مصر" ولاسيما تلك التي تحدث فيها عن محاولة نزار التواصل مع النقاد المصريين بعد إصداره لديوان "طفولة نهد" وكيف أنهم تجاهلوه تماماً، ومن بينهم سيد قطب الذي كان يعتبر من أكبر النقاد في مصر آنذاك، وكان يشار إليه بأنه ناقد مجلة "الرسالة". فرغب نزار بحسب وديع فلسطين "أن نزوره لنقدم إليه الديوان، وزرناه فعلا في بيته بحلوان، وعرفته على نزار، وأهدى إليه الديوان، ولكن سيد قطب لم يكتب عنه شيئاً! وفي ظني لأنه كان محافظاً وشعر نزار كان جريئا جداً، وترد به كلمات لم يعتد عليها المجتمع وقتئذ، ولم تستسغها بعد عين الناقد، ولا أذن القارئ".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها