السبت 2023/12/16

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

إنه رسم قاتل يا رفيق

السبت 2023/12/16
إنه رسم قاتل يا رفيق
علي فرزات
increase حجم الخط decrease
عليك أن تفضح المستور. يقول الشاعر.
عليك أن لا تبيع روحك، يهتف المغني من بعيد.
لكن.
هي ليست حالة خاصة، بل هي حالة عامة، وظاهرة إنسانية عرفتها البشرية منذ فجر الحضارة. أي أن تبيع نفسك للشيطان، كما كتب غوته الألماني. وهو من أبدع مسرحيته الغريبة المسماة "فاوست". فاوست الذي باع روحه للشيطان من أجل مكاسب دنيوية. كأن تكون نقوداً، تلك المكاسب، أو معارف ترفع المرء الزائل. تكون منصباً أو بعثة دراسية، أو ذهبا للبيع في سوق النخاسة.

بيع النفس ليس ثقافة عربية فقط. لا تتوهمنّ ذلك. ثقافة عالمية عاشتها شعوب الأرض كلها. في كل مكان وزمان يقع المرء على من يبيع قلمه، ذاته، ضميره، جسده، وأفكاره التي يقلّبها هنا وهناك حسب جهة الريح. عرفت البشرية هذه الظاهرة منذ فجر التاريخ. ولنتذكر الكتبة السومريين لدى الملوك، وكهنة المعابد البابليين والآشوريين وهم يترنمون بأناشيد المدح والتملق للرئيس، والخليفة، والملك، والسلطان. نتذكر وكلاء الحكام وهم يدبجون قصائد المديح.

هل غادر الشعراء؟/ أين؟/ إلى الوليمة. يتساءل الشاعر العراقي سعدي يوسف الذي ترجم أيضا رواية "حياة متخيلة، أوفيد في المنفى" لديفيد معلوف الأسترالي من أصل لبناني. عنونها سعدي بـ"أوفيد في المنفى" كونها رواية تجعل القارئ يعيش هذه اللحظة، لحظة النفي، والنبذ، والركل السلطوي على القفا بعيداً من مكان الولادة. وهذا هو الثمن الذي يدفعه مُعارض الحاكم. وكان أوفيد شاعراً رومانياً متمرداً. اضطر على العيش مع البرابرة في الشمال حفاظاً على قلمه.

(ديفيد معلوف)

سعدي يوسف الذي ترجم رواية ديفيد معلوف هو مغترب أيضاً. ومات في غربته اللندنية كي لا يساوم على حريته. سعدي سأل في قصيدته ذات مرة: طرقت الباب، قالت لي فتاة:/ ـ غادر الشعراء!/ أين؟/ ـ إلى الوليمة!/ كلّهم؟/ ـ كلّ الذين عرفتهم! أجل. هل غادر الشعراء؟ نعم. أين؟ إلى الوليمة. لكن أية وليمة؟
 
الشاعر الروماني "أوفيد"، (43 ق.م – 17.م ) نفي إلى بلاد البرابرة في الشمال لمواقفه السياسية. كان يمكن أن يغتال في بيته، أو يسجن في زنزانة انفرادية، أو يسمم. كاتم صوت. عبوة متفجرة مزروعة في كتف الطريق. سم مع القهوة. أو يختطف كما يجري في زماننا، ثم يجده الرعاة، أو الفلاحون، ملقى في مزبلة بعيدة، أو جثة هامدة عند زقاق معتم، أو يغيب ببساطة من دون أثر. ويظل لغزا على مر السنين، ومن بين هؤلاء صحافيون وناشرون، ومثقفون، ورجال دين، ورياضيون، ومفكرون.

لكن المنفى، لمن يعيشه، يعيد صياغة الفرد من جديد، ولن يكون هو ذاته مرة أخرى.
كيف يتسول المثقف إذن؟ وكيف يستجدي النشر من صحيفة تافهة لا يؤمن بها؟ ومن جهة سياسية تدعمها؟ كيف يكتب المثقف خلاف قناعته؟

شاعر يمجد ديكتاتورا. روائي يقدّس قاتلا. ناقد يرتبط بحركة سياسية، طائفية، تؤمن بالقوة والسلاح والعنف ضمن محيطها الاجتماعي. وهنا نتذكر مرة أخرى أمثولة الزمن القديم. كتبة الفراعنة، ورهبان محاكم التفتيش، وقساوسة بوذا، وشامانات جزر أسترايا، وسحرة أفريقيا، مرورا بتاريخ الأمويين، والعباسيين، والسلاجقة، والبويهيين، والصفويين، والعثمانيين، ومدّاحي السلطات تلك على مر الزمن. بمن في ذلك شعراء مشهورون مثل المتنبي، والبحتري، وأبي فراس، وليس انتهاء بديدن السلطات "الوطنية" التي كرست شعراءها، ومدّاحيها، وصحافييها. كرستهم سدنة للثقافة في البلد. العراق. سوريا. ليبيا. مصر، الجزائر. وهلم جرا.

لن تتركك السلطة تنتج شعرك، ومدونات تاريخ بلادك، وروايتك لسيرتك الخاصة، أو ملابسات دينك في عهده الأول، من دون أن تتدخل في ما تكتب. فالتاريخ يكتبه المنتصرون. المهيمنون على الجسد والفكر. على الفضائيات، والبنوك، والشارع، ومخازن الأسلحة، والصحف المجترّة مثل جاموس عراقي. هذا قانون يسري على أغلب الدول في كرتنا الأرضية. والسلطات الحاكمة هي التي تختصر. وتحذف. وتتوسع في سردية ما يروقها. تغرق الفضاء بدخان كثيف في هذا الجانب، أو تشف في ساحل ما من القصة. وهي ذاتها تبعد أي شخص يتجرأ على مخالفة تعاليمها.


(رسم يُظهر تنفيذ الإعدام بحق منصور الحلاج)

ثم نقول: لنا في الحلاج مثالاً. ألا تعرف من هو الحلاج؟
هو المتصوف الذي قًطّع على الجسر شلواً فشلواً. الجسر نفسه الذي صاغ غزله علي ابن الجهم البغدادي شعراً: عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري. وبِتنا على رغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا/ خَليطان مِن ماء الغَمامَةِ وَالخَمرِ. وفي إبن الراوندي الملحد الذي كتب مثالب القرآن، وكان خير برهان على أمثولة الحذف، جسديا أولاً، ثم معنوياً ثانياً من التاريخ المدون. كل ذلك إن تجرأت على دين، أو نص مقدس، أو واقعة في تاريخ ملفق، أو حدث لا يصب في مصلحة السلطان الحاكم، قديماً وحديثاً، وجاء الحدث رواية، وسرداً، وتساؤلاً.

لا ينبغي لك أن تحتفظ بعقلك دائماً. المعلم يضع النقود في رأسك. كما رسم علي فرزات السوري. قلمك ينبغي أن يلتقط الرسالة. الرسالة مرزومة مع النقود. والمفارقة أن أصابع الرسام ذاته، لم تعجب الحاكم، فأوصى بتكسيرها قرب حديقة "الأمويين". قرب السيف الدمشقي الواقف في فضاء بني أمية. كسر الرئيس أصابع الرسام وهو يقهقه ضاحكاً. لا ترسم ما يقضّ مضجع الرئيس. تقول الزبانية. عليك أن تكتب ما يريد، وما يرغب. ما يرغب فقط. قلمك أداة لتزييف الوقائع، والتاريخ، والحاضر، والماضي. كل ذلك من أجل بقاء فخامته على كرسي السلطة. كرسي القتل، وتقرير المصير، وإطلاق السراح، ووهب النقود والنساء والوظائف والرحلات نحو أقاصي الأرض. تلك حقيقة نشأت منذ فجر العقل في قطيع حيّ يسمونه الإنسان.


(فكتور جارا)

اسمع: المغني الشيلي فيكتور جارا لم يكسروا أصابعه فقط، بل قطعوا كفّيه في ملعب سانتياغو من قبل عصابة ديكتاتور يلقبونه بينوشيه.

لا تعرف بينوشيه جزار تشيلي؟
سيلفادور ألليندي، الرئيس. فيكتور جارا المغني على غيتار. إيزابيل ألليندي الروائية. هي ذاتها التي كتبت رواية إيفا لونا. بابلو نيرودا الشاعر الذي كتب سيرته الساحرة "أشهد أنني قد عشت". هذا مثال حي. مثال بسيط على رسم السوري علي فرزات. كل ذلك حصل في شيلي قبل خمسين سنة أو يزيد. شيلي الممتدة، مثل خط عريض متعرج، على طول ساحل المحيط الهادئ. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها