الثلاثاء 2023/12/12

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

نجيب محفوظ حيّ بيننا

الثلاثاء 2023/12/12
نجيب محفوظ حيّ بيننا
في ثنايا كتاباته استطعت الإطلال على روح المجتمع المصري
increase حجم الخط decrease
نجيب محفوظ هو أحد أهم أهرامات مصر العظيمة. وهو باق بالرغم من مرور الزمن، إذ من النادر اليوم أن نجد كاتباً يمتلك هذا الإصرار والتنوع والعمق الذي امتلكه. ومن النادر أن نجد في السنوات التالية إجماعاً على الموهبة والعبقرية الروائية كذلك الإجماع الذي حظي به نجيب محفوظ بين القراء العرب.

هو من دون شك معلّم الرواية العربية بمفهومها المعاصر. وهو لحظة التأسيس واضحة المعالم بين نثرين، تقليدي لمّا يزل ينسج على النمط القروسطي والعثماني، وآخر معاصر ينفتح على الحداثة الأوروبية، وتنوير المفكرين العرب. وقد استفاد من خبرات الرواية العالمية بدقة الوعي الفلسفي، وشفافية الأديب العازم على خلق بصمته الخاصة. وجاء ذلك التأسيس الروائي عبر أكثر من مستوى، لعل تطويع اللغة العربية كي تتواءم مع نمط السرد الروائي هو الأبرز في ذلك التأسيس.

لقد أمسك محفوظ بإمكانات اللغة العربية ليبني شخصيات تاريخية وأخرى معاصرة. شخصيات متعلمة وأخرى جاهلة. نبيلة وساقطة. وصولاً إلى الشخصيات المتصوفة التي تنطق باللغة العرفانية متعددة الأوجه. كل ذلك نجده في قصصه ورواياته الأخيرة على وجه التحديد. 
إن الشيء الذي أعتبره مهماً، على الصعيد الشخصي، هو أنني لم أشاهد تلك الروايات في السينما، فظلّت في داخلي طازجة، وعميقة، لم تتعرّض إلى أي تسطيح، أو تحويل استهلاكي، أو فبركة متخلفة فنياً. فكانت "رادوبيس" ثاني رواية لمحفوظ، والثلاثية العملاقة: "بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية". وكانت "السراب" و"اللص والكلاب" و"أولاد حارتنا" و"ليلي ألف ليلة"، وغيرها الكثير، مما فتح لي عالماً جديداً من النثر العربي، والهم العربي، والتساؤلات الروحية والاجتماعية والدينية. 

إن قراءة محفوظ يمكن الإلمام بها من جوانب عديدة، كأن يكون الجانب السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو اللغوي. وهذا وحده كفيل بوضع إبداع محفوظ في مستوياته الرفيعة من الابداع البشري عامة.

وفي ثنايا كتاباته استطعت الإطلال على روح المجتمع المصري، وشخصياته الثرية والزاخرة بالتنوع والحياة، وكأن القاهرة لوحة محفوظية ترى عياناً وتُشم من بعيد، أهراماتها ونيلها ومقاهيها وحاراتها. ووجدت في تلك الروايات مرآة لمصر التاريخ، ومصر الحضارة، ومصر القاع، مثلما وجدت أيضا هموم المجتمعات العربية الأخرى. إذ إنه، وباستخدام حيثيات الواقع المصري كمادة أولية، استطاع ببراعته الذهنية، وانفتاحه على الثقافة العربية والغربية في الآن ذاته، أن يعكس هموم المجتمع العربي عامة، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن.

وما كان يدهشني في هذا الروائي الفذ، قدرته على تسويغ اللهجة العامية في الحوار بين الشخصيات، والتمكن من لغة وسيطة لا هي بالمتحذلقة ولا بالركيكة، مع براعته في تشويق القارئ وشدّه كي يتابع أي رواية أو قصة يكتبها. كان يذهب إلى فكرته بروية وثبات، دون الاتكاء على الإنشاء، مرض العصر في واقع السرد العربي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها