الخميس 2023/11/30

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

"نابليون" ريدلي سكوت: مَلحَمة مبهرة...لكن نجاحها يستوجب كلاماً آخر

الخميس 2023/11/30
increase حجم الخط decrease
كسينمائي سينتهي به الأمر غالباً إلى إخراج العديد من الأفلام بقدر المعارك التي قادها نابليون بونابرت في حياته القصيرة، بدا ريدلي سكوت وكأنه الرجل المناسب لتولي المهمّة الملحمية المتمثلة في إنتاج فيلم عن الجنرال والإمبراطور والشخصية الرئيسة في التاريخ الأوروبي. ليس فقط بسبب طاقته التي لا تنضب وصوته التوجيهي المسيطر الواثق (سكوت مخرج أفلام من الحرس القديم، وواحد من أولئك الذين لا يعيرون اهتماماً كبيراً لمشاعر اليوم الهشّة)، لكن لأنه، بلا شكّ، أحد أفضل مخرجي مشاهد الحرب والمعارك والمبارزات، وهو ما كان يفعله منذ فيلم "المبارزون" (1977). فيلمه الأخير، "نابليون"(*)، يتمتّع بخصائص سينماه المعهودة، إلا أنه نادراً ما يفلت من تلك الدقّة الصارمة التي يمكن للرجل، كما نعلم، تحقيقها من دون أن يطرف جفنه. الفيلم يفتقر إلى شيء ما، ومن الصعب تحديد ماهيته.

إنها حكاية تاريخية طموحة، ملحمة بأبعادها الحربية (يختار سكوت ست معارك لتصويرها) لكنها أيضاً قصة حميمة ونفسية تحاول فهم كيفية عمل رأس بطلها، خصوصاً في ما يتعلق بعلاقته الغرامية مع مَن كانت امرأة حياته، جوزفين (تقوم بدورها الاستثنائية فانيسا كيربي). وعلى الرغم من أن هذه العلاقة تقود القصة وتعقّدها، ما أجبر نابليون مرات عديدة على اتخاذ قرارات سياسية وحتى تعديل خططه الحربية وفقاً لبعض نوبات الغيرة، إلا أنها لا تتكامل تماماً مع تلك الشخصية الأخرى التي تهيمن بشكل مريح على مشهد المعركة. على الورق - في نصّ ديفيد سكاربا، دعنا نقول – يبدو الأمر ناجحاً. لكن في الممارسة العملية، ليس كثيراً. عشق نابليون جوزفين، لكنه في الوقت ذاته أساء إليها وعاملها بوحشيةٍ في علاقة قوة متغيّرة وعاصفة ربما تكون أفضل ما في هذا الفيلم الأطول من اللازم.

قبل فترة طويلة من خلافه مع قطاع معتبر من النقّاد الفرنسيين بسبب الاستقبال القاسي الذي تلقّاه "نابليون"، قال ريدلي سكوت إن الطول الأصلي لفيلمه حول سيرة نابليون كان أربع ساعات ونصف الساعة. ربما تكون شركة "آبل تي في"، منتجة الفيلم، قد منحت ما يقرب من 200 مليون دولار لمارتن سكورسيزي في فيلم "قتلة زهرة القمر"، والمبلغ ذاته لمخرج أفلام "بليد رانر" و"آلين"، لكن حتى بهذه المعايير امتدّ الفيلم أطول من اللازم. الخلاصة: اضطر سكوت إلى تقليص الكثير للوصول إلى مدة معقولة إلى حدّ ما تزيد قليلاً عن ساعتين ونصف الساعة. من المستحيل أن نعرف - على الأقل في الوقت الحالي، حيث من المرجح أن تهبط النسخة الأصلية على منصة "آبل تي في" لاحقاً - ما الذي أغفله المخرج البالغ من العمر 85 عاماً، لكن الأمر المؤكد هو أنّ آثار القطع تتجسّد في أنحاء الفيلم، المتعثّر بقدر طموحه ورغبته في سرد كل شيء.


تشير اللوحات السوداء الكلاسيكية بأحرفها البيضاء في بداية التترات الختامية إلى أن كلمات نابليون الأخيرة قبل وفاته كانت "فرنسا، الجيش، جوزفين". الأخيرة هي زوجته، وكما قيل هنا، المرأة التي أحبّها أكثر من غيرها، رغم أنه اختار الانفصال عنها ليقينه أنه لن يستطيع أن يعطيها إبناً لإطالة أمد إرثه. انتقاء وإبراز هذه المعلومة ليس اعتباطياً، إذ يلتزم الفيلم بالابتعاد عن الصورة الأيقونية مستخدماً هذه العناصر الثلاثة كمرايا تعيد صورة الأوجه المختلفة لبطله ملفوفة بخيوط متعددة، رغم عدم اهتمام المخرج بمقاربة الاضطرابات الجيوسياسية التي يدين لها نابليون بصعوده والتي سرعان ما لعب هو نفسه دوراً حاسماً فيها.

بدلاً من هذا، يتضمّن "نابليون" مؤامرات القصر النموذجية للتقلبات السياسية بعد الثورة الفرنسية ومعارك أعيد إنشاؤها باستخدام مشهدية هوليوود المعتادة وبراعة سكوت المجرّبة في لقطات الأكشن والعَرَق، مروراً بدراما رومانسية أكثر حميمية، نتيجة علاقته مع امرأة (البريطانية فانيسا كيربي) يلتقيها بالصدفة عشية مسيرته النيزكية نحو عرش الإمبراطورية والغزو اللاحق لجزء كبير من أوروبا. مشروع توسّعي اصطدم - مثل كثيرين آخرين، قبله وبعده - بشتاء الإمبراطورية الروسية القاسي.

لا شك أن كل هذه الجوانب يمكن أن تجتمع في الشخص نفسه. وهي كذلك بالفعل كما تخبرنا سير جميع القادة المؤثّرين تقريباً. المشكلة هي كيفية جعل هذا التعايش قابلاً للتطبيق على الشاشة. لا يبدو اقتراح سكوت (تعدُّد النبرات والأنواع وحتى السجّلات) الطريقة الأفضل لتغطية أكثر من 30 عاماً منذ العام 1789 - حين يشاهد نابليون (خواكين فينيكس الذي بدا مقيّداً بشكل غير متوقع في اجتماعه مع المخرج بعد أكثر من 20 عاماً من فيلمهما "غلادياتور") فيما تتدحرج الرؤوس من حوله، بما في ذلك رأس ماري أنطوانيت، بأنصبة متساوية من الطرب والرغبة في أن يكون الجلّاد/السيّاف - حتى وفاته في العام 1815.

كل شيء يبدأ في خضم الثورة وعهد المقصلة، وسيستمر حتى وفاة نابليون عن عمر يناهز 51 عاماً. حياة قصيرة بمعايير اليوم، لكنها كانت ذات كثافة وتأثير حاسمين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. في الأثناء، ثمة صعود وهبوط حيث يفشل سيناريو ديفيد سكاربا - الذي عمل معه المخرج بالفعل في فيلم "كل المال في العالم" (2017) - في خلق عظمة وافية. بهذا الفيلم، يعود ريدلي سكوت إلى أرضه سيّداً لسينما المعارك، بشاشة عريضة كاملة وبقوة بانورامية: سينما استعراضية حتى النخاع ومبهرة لدرجة تبرّر وحدها مشاهدتها على الشاشة الكبيرة. لكن بالرغم من أن كل هذا مثير للاهتمام، إلا أنه لا يكفي ليكوّن روح فيلم عظيم. تماماً مثلما أن المعارك الستّ المعروضة هنا، حين التعامل معها منفردة بمعزل عن بقية الفيلم، لا تحكي حياة. وبالتأكيد ليست قصة بطولية، فالزمن مختلف الآن، وليس سهلاً التماهي مع أو الاحتفاء الصافي بشخصيات إشكالية مثل نابليون. حقيقة أن خواكين فينيكس يجسّد نابليون بأداءٍ يمكن وصفه بالتخريبي، من موقعٍ ينصرف عن الكاريزما كبطلٍ مضاد كبرَ قبل أوانه، لا تساعد أيضاً ولا تتبع التقاليد التاريخية.

بالمثل، لا يحمل الجانب الموجود خارج الكاميرا دائماً وزناً كافياً لتكييف سلوك نابليون الفوضوي، لكنه لا يُصوَّر أيضاً كرجل متعصّب بطبيعة مائلة نحو جنون العظمة والإسراف. هو على الأرجح شخص عرف كيفية الاستفادة من سياقٍ يحكمه الاضطراب والشذوذ والمقصلة. وهكذا ينتهي "نابليون" قصة ملحمية عن جنرال عظيم ورجل صغير، وعن مدى صعوبة الاستمرار في القتال - وربما التصوير - عندما لا تكون هناك أسباب حقيقية للقيام بذلك سوى محاولة إثبات أنك قادر على ذلك.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.
فيلم "نابليون" (المملكة المتحدة - الولايات المتحدة الأميركية/2023). إخراج: ريدلي سكوت. تمثيل: خواكين فينيكس، فانيسا كيربي، طاهر رحيم، روبرت إيفريت، إدوارد فيليبونات، كاثرين ووكر، ولوديفين ساجنييه. سيناريو: ديفيد سكاربا. تصوير سينمائي: داريوش فولسكي. مونتاج: كلير سيمبسون وسام ريستيفو. موسيقى: مارتن فيبس. مدة العرض: 158 دقيقة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها