من بين الكتب اللافتة الصادرة في معرض بيروت، عن دار نلسن، طبعة جديدة من
"مذكرات بديعة مصابني" ب
تقديم وتحقيق الباحث في التاريخ الحديث،
باسم فليفل. والمذكرات في طبعتها الأولى، كانت دونتها الكاتبة
نازك باسيلا في أواخر الخمسينيات، وصدرت عن دار مكتبة الحياة، وشغلت الرأي العام كثيراً، وأعادت الصحف نشرها أكثر من مرّة، وقيل الكثير بشأنها، وأن بديعة كانت امرأة ألعوبان، فالكازينو الذي افتتحته مسرحاً للسهر والعروض الراقصة والطرب و"الفرفشة"، تحوّل في مرحلة معبراً لأبرز الأسماء في الوسط الفنّي، من فريد الأطرش إلى تحية كاريوكا وسامية جمال حتى ناديا جمال... في مذكرات بديعة، عوالم ومحطات من سوريا إلى لبنان والمهجر والقاهرة، والزمن العثماني والانتداب الفرنسي والنظام المصري. فرح ومكائد وبهجة وحزن، عالم مثير ومتشعب يشبه ألف ليلة وليلة، صنعته امرأة انطلقت من الصفر، من القاع، واستطاعت أن تكون محوراً وسلطة تتحكم بعالم الترفيه لمرحلة. لكن الصعود كان له هبوط، وبديعة التي شغلت الصحف طوال سنوات، تتحدّث في مذكراتها بأمور ربما ينبغي التدقيق في تفاصيلها، في طبعة دار نلسن دوّن الباحث اللبناني باسم فليفل الكثير من الهوامش حولها، ومعه أجرت "المدن" هذه الدردشة...
- ما الذي دفعك الى تحقيق أو التدقيق في مذكرات الفنانة والأرتيست بديعة مصابني... أنت المهتم بالتاريخ العثماني؟
* أحبّ أنواع الكتابات إليّ، بعد كتب التاريخ الإسلامي، هي المذكرات أو السير الذاتية، كونها كتباً تاريخية أيضًا، غير أنها تاريخ عاشه أشخاص وخبروه فنقلوا إلينا تلك الأحداث بصيغة جميلة، وكأنهم صبوا أرواحهم فيها، فلا تكون تاريخًا جافًا مثل الكتب الأكاديمية الصرف. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى فإن قرابة ربع حياة بديعة مصابني أمضتها خلال العصر العثماني (1892-1918) وشهدت وخبرت الاضطرابات أواخر هذا العصر بما فيها عزل السلطان عبد الحميد وتولي حزب الاتحاد والترقي، واندلاع الحرب العالمية الأولى وتبعاتها من مجاعة جبل لبنان والثورة العربية الكبرى. تنقل إلينا بعض هذه الأحداث كما عرفتها وخبرتها، فهي فرصة للإطلاع على تفاصيل إضافية من هذه المرحلة بعين أحد الأعلام العرب الذين خبروها. كذلك كان قد سبق لي الإطلاع على مذكرات نجيب الريحاني، زوج بديعة مصابني، وأُعجبت بها، فأردت أن اطلع على مذكراتها وأقارن بينهما. أخيرًا كانت فرصة لخوض غمار مجال التحقيق فلا يكون عملي مقتصرًا على البحث والتأليف.
- ما أبرز الملاحظات التي استنتجتها من خلال تحقيقك.. خصوصاً أنك قارنت بين كلام بديعة وكلام زوجها نجيب الريحاني؟
* هناك مبالغات في جوانب عديدة برأيي، وهناك إساءة للريحاني. أقول إساءة لأن الريحاني نفسه لم يتعرّض لبديعة مصابني بسوء في مذكراته، وآخر ما يقوله: سامحها الله، بينما هي أساءت له بقدرٍ يُسيء إليها أيضًا، فاتهامها له بالكسل يتكرّر كثيرًا بحجة أنه لم يكن غزير الانتاج المسرحي، بينما هو يذكر سببًا منطقيًا مفهومًا، هو صعوبة إخراج فكرة مقبولة لدى الجمهور وضرورة تمحيصها وغربلتها وتشذيبها قبل طرحها للعلن. كذلك هناك بضعة أخطاء تاريخية وقعت فيها صاحبة المذكرات، وأرى أنها عممت بعض الأفكار بخصوص الدولة العثمانية على جميع الناس.
- انطلاقاً من اهتمامك بالتاريخ.. في رأيك متى تنشأ ظواهر مثل بديعة؟
* الظروف الشخصية والعمومية كانت متوافقة حينذاك لظهور بديعة مصابني وغيرها من أعلام الفن العربي الحديث ممن عاش ظروفًا شبيهة بها. فعلى الصعيد الشخصي، كانت الحياة الأسرية المفككة -وفق ما ترويه بديعة- والضيق الاقتصادي والنبذ الاجتماعي لعائلتها بسبب مأساتها في صغرها والتعليم المحدود، دافعًا لها لتبحث عن مَخرج، ولم يكن لها من مَخرجٍ سوى درب الفن أو دروب غير شرعية. لا شك أنّ الضائقة الاقتصادية التي كانت الدولة العثمانية تمرّ بها، نتيجة هيمنة الدول الأوروبية على ماليتها، ساهمت في نشوء مثل هذه الظواهر الباحثة عن فرصٍ أفضل في الحياة. أضف إلى ذلك، أن الانفتاح العربي والإسلامي على الغرب كان في ذروته آنذاك، نتيجة سياسة التنظيمات التي اعتمدتها الدولة العثمانية قبل ما يزيد عن نصف قرن من جهة، ومن جهةٍ أخرى لتعدّد الأشخاص الذين هاجروا للدراسة في الجامعات الأوروبية، ولكثرة البعثات التبشيرية في بلادنا وما ابتنته من مؤسساتٍ تعليمية كانت تنقل إلينا ثقافة وعقلية الغرب. كل ذلك أفضى إلى تقبّل جوانب من الثقافة الغربية، على رأسها التمثيل والفن الاستعراضي، دعّمتها الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
- هل تعتقد أن بديعة كانت تروي مذكراتها بهذا لتغطي على أمور أخرى في حياتها؟
* رأيي أنها كانت تعبيراً حقيقياً عن حياة طغى عليها الشقاء النفسي، ورغبة بمشاركة العالم هذه التجربة تخفيفًا عن النفس، ويلمس المرء شيئاً من الندم في كلامها، فقد يكون اعتذاراً للنفس أو تبريراً لبعض الأفعال. أيضًا، لعلها قلّدت زوجها الريحاني الذي نُشرت مذكّراته قبلها بسنوات، فهما تنافسا على تخريج الفنانين واستقطاب الجماهير في الحياة، فلعلّ هذا التنافس امتدّ نوعًا ما إلى بعد وفاة الريحاني، وتُرجم بهذه المذكرات.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها