أمَّا السبب الأوَّل فرغبةٌ شخصيَّة أن لا يكون عملي مُقتصـرًا على البحث والتأليف، وأن أخوض غمار مجالٍ جديدٍ بالنسبة إليّ، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبحث، فأوصلُ الفائدة إلى القارئ بأُسلوبٍ آخر، مُوضحًا ما قد يلتبس على غير المُختص أو المُطَّلع على تاريخ بلادنا، لا سيَّما إن تبنَّت تلك المُذكرات معلومات ثبت خطؤها اليوم بعدما أُجريت حولها دراسات مُكثَّفة أو قبل المُجتمع العلمي رأيًا مُعينًا بخصوصها، أو إن كان صاحب المُذكَّرات يتعمَّد الكذب لغايةٍ في نفس يعقوب، أو يعكس رأيًا اجتماعيًّا في ذلك الزمن لم تكن قد تكشَّفت المزيد من المعلومات حوله.
وأمَّا السبب الثاني، فإنَّ أكثر ما يطيبُ لي قراءته خارج المجال التاريخي التُراثي والأكاديمي الحديث، هو مُذكَّرات الأشخاص، ولعلَّ سبب ذلك هو كونها كُتب تاريخٍ أيضًا، ولكنها تُؤرِّخُ للأحداث وتروي المُجريات على لسان أُناسٍ عاشوها وخبروها، فسكبوا روحهم ومشاعرهم في مُذكَّراتهم، فخرجت كُتبًا تاريخيَّة لها رونقٌ خاص يعرفه كُل مُحب لقراءة التاريخ عُمومًا والمُذكَّرات خُصوصًا، ولم تخرج بحُلَّةٍ أكاديميَّةٍ جافَّة قد يستثقلها ويعزف عنها القارئ العادي. فالمُذكَّرات روايات تاريخيَّة واقعيَّة مُوجَّهة لعامَّة الناس من غير المُتخصصين.
وأمَّا السبب الثالث فمُرتبطٌ بسابقه، إذ كُنتُ قد اطلعت قبل سنوات على مُذكَّرات نجيب الرِّيحاني ولفتني ما تضمَّنته من معلوماتٍ لم أكن أعلمها حينها عن الحياة الفنيَّة في مصـر، وعن حياة الرِّيحاني نفسه خارج نطاق الشاشتين الكبيرة والصغيرة. ولمَّا كان الرِّيحاني قد تناول بعض جوانب حياته الشخصيَّة مع بديعة مصابني دون استرسال، فقد كانت هذه فُرصة للتعرُّف على هذا الجانب كما روته زوجته، وفُرصةٌ أيضًا للتعرُّف على الحياة العامَّة في الديار الشَّاميَّة أوائل القرن العشـرين الميلادي، كما كانت مُذكَّرات الرِّيحاني فُرصةً للتعرُّف على الحياة ذاتها في الديار المصـريَّة خلال تلك الفترة من تاريخنا العربي والإسلامي، ومُقارنة الروايات الواردة في كُلٍ منهما.
إنَّ المُطَّلع على مُذكَّرات بديعة مصابني يجد نفسه مُسافرًا عبر التاريخ، في مراحل زمنيَّة مُختلفة حُدُودها واضحة، يستشعرها القارئ وتتكوَّن في ذهنه صورة ذلك الزمن وتبدُّله التدريجي، سُنَّة الله في الكون أن لا يظل شيءٌ على ما هو عليه. لقد شهدت صاحبة المُذكرات تبدُّل أحوال الدُنيا خلال ما يقرب من قرن، بحيث أنها حينما ماتت كان العالم الذي عرفته في صغرها وشبابها قد انقضـى إلى لاعودة، ففي بدايات حياتها كان الناس ما زالوا يتنقلون على الدواب، وحينما توفيت كانت قد مضت خمس سنواتٍ على هُبُوط البشـر على سطح القمر.
تكمن قيمة هذه المُذكَّرات في تأريخها لأحداث المنطقة على الصعيدين السياسي والفني. فقد عاصرت بديعة مصابني ما تبقَّى من حياة الدولة العُثمانيَّة، بما فيها السنوات السبعة عشـر الأخيرة من عهد السُلطان عبد الحميد الثاني، ثُمَّ السنوات التسع من حُكم حزب الاتحاد والترقي. شهدت الحرب العالميَّة الأولى بويلاتها وسُقُوط الدولة العُثمانيَّة وحُلُول الانتدابين البريطاني والفرنسـي مكانها، وتقسيم بلادنا العربيَّة والإسلاميَّة إلى كياناتٍ سياسيَّةٍ جديدة بما يخدم المصالح الغربيَّة. وشهدت فترة ما بين الحربين العالميتين وصُعُود الأيديولوجيَّات الفاشيَّة في أوروپَّا، ثُمَّ الحرب العالميَّة الثانية بويلاتها، وأخيرًا عالم ما بعد الحرب العالميَّة الذي عرف استقرارًا إلى حين وشهد استقلال أغلب الدُول العربيَّة الوليدة، والاحتلال الصهيوني لفلسطين وتهجير أهلها، ثُمَّ اندلاع الحرب الباردة بين المُعسكرين الشـرقي والغربي وسُقُوط الملكيَّات العربيَّة وقيام الجُمهُوريَّات العسكريَّة، وذُروة الصـراع العربي الإسرائيلي. وأغلب هذه الأحداث نقرأها بين ثنايا مُذكَّراتها، ونراها بعينها الشاهدة. إنَّها مُذكَّراتٌ غنيَّة بالأحداث السياسيَّة التاريخيَّة، ولمَّا نتطرَّق بعد لقيمتها في التأريخ للفن العربي.
لا جدال في أنَّ لصاحبة المُذكَّرات فضلٌ كبير وبصمة أكبر على الساحة الفنيَّة العربيَّة، لكثرة من انطلق نحو عالم الشُهرة في مجال الطرب والتمثيل والرقص وكانت بداياته معها، من فريد الأطرش وإسماعيل يٓس إلى تحيَّة كاريوكا وسامية جمال، وهذا ما يظهر جلياً في الربع الأخير من المُذكرات. ولا يخفى على المُطَّلعين ومُحبي تاريخ الفن مدى شُح ونُدرة المصادر التي تكشف ثنايا هذا المجال الدراسي، لقلَّة ما وُثِّق من حياة رُوَّاد الطرب والموسيقى والتمثيل المسـرحي العربي الحديث مُنذُ أواخر القرن التاسع عشـر وأوائل القرن العشـرين الميلاديين، ولكثرة ما تناقلته وسائل الإعلام المقروءة والمرئيَّة والمَسمُوعة من أخبارٍ مُزيَّفة أو مُختلَقة أو مُبالغ فيها بخصوص حياة بعض الفنَّانين أو مُجريات أُمُورٍ مُعيَّنة. فتأتي هذه المُذكَّرات وما يُماثلها لتسُد هذه الثغرة وتُؤمِّن مصدرًا مُهمًا للباحثين والمُوثِّقين.
عمدت خلال عملي إلى شـرح كُل ما قد يشكل على القارئ غير المُتخصص، خاصَّةً الأحداث التاريخيَّة التي عاصرتها بديعة مصابني، وتوسَّعت في بعض التفاسير خاصَّةً عندما تعلَّق الأمر بأحداثٍ جرت أواخر العصـر العُثماني، مُسندًا كُل معلومة إلى مصدرها الأصيل. وعمدت أيضًا إلى إدراج العديد من المُلاحظات التعريفيَّة بمواقع جُغرافيَّة ومعالم وأماكن مُعيَّنة قد لا يعرفها أغلب القُرَّاء من غير أهل الدولة أو البلدة أو المدينة التي يقع فيها المَعلَم أو الموقع، وأسندتها إلى مصادرها الأصيلة.
أمَّا المصادر فأغلبها كُتُبٌ ودوريَّات أكاديميَّة ومجلَّات ثقافيَّة. واضطُررتُ غير مرَّة أن ألجأ إلى مصادر إلكترونيَّة، أعني مواقع الإنترنت المُختلفة، لإيجاد معلومات حول هذا المعلم أو ذاك، ولبعض الأعلام، مما لم أعثر عليه في ثنايا المصادر الورقيَّة الموثوقة. وقد حاولت جاهدًا أن تكون هذه الموقع مشهورة ومعروفة، وعلى قدرٍ مُعيَّنٍ من الموثوقيَّة، وأرشفتها جميها وأرفقت روابطها المُؤرشفة مُختصـرةً في الهوامش. ولعلَّ أبرز مصدرٍ رجعت إليه كان مُذكَّرات نجيب الرِّيحاني، إذ اعتمدت عليها لأُقارن بينها وبين ما ذكرته بديعة مصابني في مُذكَّراتها، خلال المرحلة المُشتركة من حياة هذين الفنَّانين، وما تلاها من توابع وأحداث نتيجة انفصالهما.
وأشـرتُ في مواضع عديدةٍ إلى وُجُود تناقُضٍ بين رواية بدايعة ورواية زوجها، أو أنَّ الأخير لم يذكر هذه الرواية، أو أنَّهُ فسَّـرها تفسيرًا مُغايرًا. وذكرت أيضًا أنَّ رواية صاحبة المُذكرات تتناقض مع ما قالته سابقًا في أحيانٍ قليلة. ورُغم أنَّ القارئ سيُلاحظ ما يبدو وكأنَّه مُغالاة أو مُبالغة في وصف بعض الأحداث وإخراجها بطريقةٍ سينمائيَّة، فإنني لم أُشـر إلى ذلك لاستحالة معرفة مدى دقَّة هذا الوصف أو صحَّته أصلًا، فإنَّ كُل من يستطيع تأكيده صار اليوم تُرابًا وعظامًا.
وفي ختام هذه المُذكَّرات أضفتُ خاتمةً ذكرتُ فيها مُلخَّص سيرة بديعة مصابني بعد نشـرها مُذكَّراتها، إلى أن أدركها الموت. إذ أنَّ الطبعة الأولى نُشـرت، وصاحبتها ما زالت حيَّةٌ تُرزق. ومن الواجب تذكير القارئ أنَّ الطبعة الأولى حَوَت صورًا عديدة لم نُدرجها هُنا، فإنَّها صُورٌ قديمة مطبوعة على أوراقٍ عتيقة، ومن شأن المسح الضوئي أن يجعلها أقل دقَّة ووُضوحًا. واستعضنا عنها بصورتين لم تُنشـرا في الطبعة الأولى، في سبيل كسر تتابع الكلام.
وإنني آمل أن يُلاقي هذا الجُهد المُتواضع قبول القُرَّاء والمُهتمين بتاريخ بلادنا عُمومًا وسيرة أعلامنا خُصوصًا، فإن أصبنا وأحسنَّا فمن الله، وإن أخطئنا فمن أنفُسنا. نسألُ الله التوفيق، إنَّهُ سميعٌ مُجيب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها