الثلاثاء 2023/10/03

آخر تحديث: 13:43 (بيروت)

"الخالق".. مَن يخشى الذكاء الاصطناعي؟

الثلاثاء 2023/10/03
increase حجم الخط decrease
في بعض الأحيان يكون من المدهش حقاً كيف يمكن للسينما أن تتمحور بالكامل حول الزمن الذي نحياه، وفي الوقت نفسه تخرج عن سياقه تماماً.

في أعقاب الإعلان عن الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه بين استديوهات هوليوود وكتّاب السيناريو المضربين (طيلة 150 يوماً تقريباً، مع استمرار الممثلين في إضرابهم منذ تموز/ يوليو الماضي)، ينزل إلى الصالات في جميع أنحاء العالم فيلم مثل "الخالق"(*)، من تأليف وإخراج غاريث إدواردز (مخرج "روج ون") وينبئ بمستقبل قريب تكون فيه البشرية (أو بالأحرى جزء منها) في حرب مفتوحة مع الذكاء الاصطناعي، أو بالأحرى، مع ثمرة إمكاناته اللامحدودة.

يدرك المخرج نفسه المصادفة الاستثنائية للتوقيت: "توقيت هذا الفيلم سوريالي. بالرغم من أننا نعمل على تطويره منذ سنوات، إلا أن إصداره يأتي في وقت رائع حيث يتصارع العالم مع العديد من القضايا والأسئلة التي نطرحها ضمن قصّته: ما يعنيه أن تكون إنساناً، وما إذا كان الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون واعياً، وسؤال الخير والشرّ بين الذكاء الاصطناعي والبشر... أعتقد حقاً أن استكشاف هذه الأسئلة هو أفضل ما يفعله الخيال العلمي".

لا جديد تحت شمس الأدب والسينما التي تنبّأت بالفعل في الماضي، وربما أفضل، بمثل هذه السيناريوهات، لكنها تجعل المرء يتساءل حقاً كيف ينتهي الأمر بـ"الخالق" إلى تبنّي أطروحة مفادها أن الذكاء الاصطناعي ليس سوى تهديد؛ وهو ما يعكس في واقع الأمر أحوال ودوافع أولئك الذين، من مؤلفين وكتاب سيناريو وممثلين، جهروا بأصواتهم الناقدة في الأشهر الأخيرة ضد بعبع التكنولوجيا التي، من الآن فصاعداً، لا يمكنها فقط "تقليد" الإبداع البشري، بل حتى استبداله في بعض الأحيان.

بالطبع، تكمن وراء كل الشرور، كما هو الحال دائماً، أفعال جنسنا البشري. يبدأ الفيلم بمقدمة مختصرة على الطراز الإعلاني تقودنا من التجارب الروبوتية الأولى إلى أحدث حدود التفاعل بين الإنسان والآلة، المحاكيات، وهي روبوتات ذات خصائص متطابقة تقريباً مع البشر أضحت مندمجة تماماً في المجتمع. لكن حدثاً كارثياً - ناجماً على ما يبدو عن الذكاء الاصطناعي نفسه - حوَّل لوس أنجليس إلى رماد. يستجيب العالم الغربي بحظر الذكاء الاصطناعي، في حين تواصل آسيا الجديدة (الدولة التي تخوض معها الولايات المتحدة حرباً تقنية شرسة) تطوير هذه التقنيات ومعاملة الروبوتات على قدم المساواة مع البشر.


هذا هو الإطار الذي يؤدي، في العام 2065، إلى حربٍ بين الغرب والشرق (صراع حضارات، سرديات كبرى.. إلخ). بطل الفيلم، جوشوا (جون ديفيد واشنطن)، عميل قوات خاصة نعرف في البداية أنه يعمل متخفياً في آسيا في مجتمعٍ معزول من المخلوقات المُنشأة (المُطوَّرة) عبر الذكاء الاصطناعي. العسكري الأميركي متزوج من مايا (جيما تشان)، إحدى بنات العدو، التي على وشك إنجاب طفل. لكن كوماندوز من الجيش الأميركي يغزو هذا الجيب الفردوسي في جنوب شرق آسيا، وبمساعدة سفينة عملاقة تتجسّس على كل شيء وتسيطر عليه وتبيده، يُطلق العنان للمذبحة والمأساة.

ينفصل جوشوا عن زوجته مايا بفعل الهجوم الوحشي، ويعتقد أنها ماتت، فيعود إلى الولايات المتحدة. بعد خمس سنوات، يطلب منه الجيش العودة إلى هناك لأنه على ما يبدو أن نيرماتا (الخالق) قد ابتكر سلاحاً قادراً على الفوز بالحرب لصالح الشرق، وهذا السلاح على وشك الاستخدام. يريدون من جوشوا أن يجد السلاح ويدمّره. إلا إنه عند وصوله إلى هناك، يكتشف جوشوا أن السلاح عبارة عن فتاة آلية تبلغ من العمر ست سنوات، اسمها ألفي (الوافدة الجديدة مادلين يونا فويلز)، يمكنها تدمير المدمّرة الأميركية الفائقة دائمة التحويم فوق سماء آسيا وبالتالي الانتصار في الحرب التي كاد أن يخسرها الذكاء الاصطناعي حتى الآن. سرعان ما يجد جوشوا نفسه محاصراً بين الجبهات، ومنذ تلك اللحظة، يبدأ في التشكيك في كل ما فكّر فيه حول الذكاء الاصطناعي، وفي ما هو حقيقي وما هو غير ذلك.

"الخالق" فيلم غامر بصرياً - خيار عدم إعادة إنشاء جميع البيئات في الاستوديو يؤتي ثماره: 80 موقع تصوير موزّعين على ثمانية بلدان، هي تايلاند وفيتنام وكمبوديا ونيبال واليابان وإندونيسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة – غير أنه فيلم مشتق بشكل كبير من حيث الموضوعات والمراجع، حيث يسهل العثور في مرئياته وخطوطه على صورٍ تتراوح من مدينة "بليد رانر" الضخمة الليلية إلى رأس العقيد كورتز الخارج من المياه في "نهاية العالم الآن" (حتى إن هناك مشهد لافت يحاكي فظائع حرب فيتنام يهدّد فيه جنود أميركيون فلاحين فقراء في قرية نائية)، كما يتبنّى أفكاراً تجمع الخيال العلمي بمستقبل تكنولوجيات معينة (المحاكيات بالطبع، ولكن أيضاً نوماد Nomad، السفينة الأميركية الطائرة الحائمة في السماء والتي يمكنها تحطيم أي مكان أو عدو في غمضة عين)،؛ وهذا كلّه يتناقض مع ريفية وصوفية الأماكن التي لا تزال طقوس الأجداد سائدة فيها (سحر قديم غامض يُقدّم أيضاً من خلال صور محبّبة لا يمكن إلا أن تذكّر المتفرّج بفيلم "المنطقة 9" (2009، نيل بلومكاب)، مثلما تؤثر عليه سلباً قصة حبّ مبتذلة يصرّ السيناريو على تضمينها.

في بعض الأحيان يكون الأمر بعيد المنال وصعب الهضم، كما في نتائج بعض المعارك وتبادل القصف، مثلما في بعض الروابط الكتابية التي لا تضيف معنى تماماً حيث يُكشف عن مشكلات من الماضي تتعلّق بمايا في النهاية، ولكن الأهمّ من ذلك كلّه أنها تجعل المرء يبتسم قائلاً لنفسه إن ألفي تستطيع التعامل مع أي تقنية بعقلها ولكنها غير قادرة على فتح حجرة الهروب الزجاجية...) ولكن لحسن الحظ مدعوماً بإيقاع لا يرقى إليه الشك، ينتهي الأمر بـ"الخالق" إلى أن يكون أشياء كثيرة جداً في وقتٍ واحد، أشبه بخلّاطٍ تُحفَّز فيه ذاكرتنا السمعية والبصرية قسراً لتوضع في حضور هذا الرجل (المجزّأ، ليس مجازياً فحسب، لأنه يمتلك ذراعاً وساقاً اصطناعيتين) وهذه الفتاة الصغيرة (المشابهة) على طريق مشتركة للمعرفة المتبادلة والوجدانية المطمئنة.

"الخالق" طويل نسبياً، في بعض الأحيان كئيب وفي أحيان أخرى مهيب وطنّان (الموسيقى من تأليف هانز زيمر في أداء مطلق العنان)، يدين في بعض مواضعه لمراجع نوعية (شيء من "تيرمناتور" و"أنا روبوت" و"بليد رانر" و"المنطقة 9" السالف ذكرهما، ولكن أيضاً لأنواع أخرى من القصص مثل "القيامة الآن" و"أطفال الرجال")، ويملك بعض المقاربات (والمعضلات) الذكية، وبعض النتائج المرئية ومشاهد الحركة المصوّرة بشكل جيد ومبهر والتي تمايزه عن بقية أفلام هوليوود الكبيرة على شاكلته. وفي لعبة الجمع والطرح هذه يكون رصيده النهائي إيجابياً.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها