السبت 2023/10/28

آخر تحديث: 12:10 (بيروت)

الانسحاب من"فرانكفورت": بُطلان عقد الاعتراف

السبت 2023/10/28
الانسحاب من"فرانكفورت": بُطلان عقد الاعتراف
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهراً في 11 أكتوبر ضمن مظاهرة داعمة للفلسطينيين (فرانس برس)
increase حجم الخط decrease
عليّ الاستيقاظ في الرابعة صباحاً للحاق بأول قطار، والطريق إلى مطار هيثرو سيستغرق ساعتين... وساعتان بعدها في الإجراءات قبل موعد إقلاع الطائرة، لعلني أحتاج بعض الوقت الإضافي من باب الاحتياط، في حال كان هناك تأخير على شبكة القطارات أو عطل أو شيء من هذا القبيل. بمجرد الوصول إلى مطار فرانكفورت يجب عليّ الإسراع في الخروج، على افتراض إن الإجراءات ستتطلّب ساعة أو ساعة ونصف، فلدي أقل من ساعتين للوصول إلى معرض الكتاب والبحث عن القاعة حيث سأشارك في ندوة عن "الكتابة العربية الجديدة".

أتصوّر أنّ المعرض هائل، وتحديد الاتجاهات داخله لن يكون بالضرورة مهمة هينة. من الأفضل أن أصل  قبل الموعد بنصف ساعة، لكن الجدول مضغوط. وماذا لو تأخرت الطائرة، ربما ستفوتني الندوة في الأساس؟ ليس الأمر بيدي، مسؤولة المعرض هي التي حجزت بطاقات الطائرة، بعد تبادل للرسائل بشكل متقطع أحياناً ومحموم أحياناً أخرى. وصلتني منها رسالتان بعد منتصف الليل، وأخرى في واحدة من ساعات الفجر، تصوّرت أنها تعمل أكثر من اللازم.

ساعة واحدة هو زمن الندوة، وهناك خمسة مشاركين، المحاوِرة وأربع كاتبات وكتّاب، وبقسمة الزمن على عدد المشاركات بالتساوي، سيكون لدي 12 دقيقة للحديث، ولشخص مثلي لا يحبذ الكلام في الأماكن العامة ربما ينتهي الأمر بأقل من عشر دقائق. الندوة ليست معنية بالناشرين لكنها موجهة للجمهور العام، لعل بعض القراء سيحضرون خصيصاً لأنهم يعرفون واحداً من الكتّاب ويودون رؤيته. غير هذا، أتصور عدداً من الهائمين بلا وجهة بين قاعات المعرض، سيطلون برؤوسهم لدقائق قبل أن يساورهم الملل وينتقلوا إلى قاعة أخرى. بعد الندوة، ليس هناك سوى القليل من الوقت، عشاء مع صديق أو أكثر، النوم في الفندق، وفي الصباح الباكر المغادرة مرة أخرى إلى لندن، ساعتان للطريق، ساعتان في المطار، ساعتان زمن الرحلة، وساعة للخروج من المطار وساعتان للعودة إلى البيت.

لا يمكن للمرء أن يفكر في أي نشاط أكثر مضيعة للوقت من هذا، يومان من السفر شبه المتواصل للحديث حوالى عشر دقائق. أرسلت لنا المحاورة رسالة جماعية تضمنت الأسئلة التي ستطرحها علينا، خمس أسئلة أو ست على ما أذكر، أي تسعين ثانية للسؤال الواحد، ما الممكن قوله في دقيقة ونصف؟ إلا أن أحداً لا ينبغي أن يتوقع قول شيء أو سماع شيء هناك. أظن لو اكتفى الجالسون على المنصة بتحريك شفاهم وإصدار بعض من أصوات الغمغمة مع هز الرؤوس بين حين وآخر، فسيكون هذا كافياً.

فرانكفورت محفل للناشرين بالأساس، للتشبيك والعلاقات العامة، والعروض التجارية والصفقات. ثمة طقوس للاعتراف أيضاً يتم تبادلها. يمنح المعرض الأشهر في العالم مدعويه صكاً بالقيمة الرمزية. لكاتب من العالم العربي قد تتضاعف مرات عديدة حصته من رأس المال الرمزي المكتسب هناك في بلده الأصلي، فالاعتراف من المركز الغربي ولو ضئيل جداً، بطول تسعين ثانية فقط لا غير، يُبالَغ دائماً في تقديره محلياً. هناك سعر لصرف عملة رأس المال الرمزي، مثل أي رأسمال آخر، ويميل بالطبع نحو الخارج.

المعرض بدوره يعلق شارة التنوّع، ثمة ندوات عن أفريقيا وعن الصحراء وعن الكتابة بالعربية، حضور الكاتبات والكتّاب الذين يكتبون بلغات المختلفة وظلال ألوان البشرة المتدرجة، قيمة مضافة للمعرض. يمكننا التفكير في الكتّاب باعتبارهم معروضات أيضاً (لعل هذا عرف متبع منذ معرض لندن الكبير 1895، حين جُلب السكان الأصليين من أصقاع الإمبراطورية ليتفرج عليهم الزوار).

ما حدث لاحقاً أصبح معلوماً للجميع. بعد السابع من أكتوبر، انهارت سياسات الاعتراف المتبادل فجأة، على مستوى يكاد يكون كوكبياً، موجة من أفعال النبذ والعقوبات الجماعية. هل يمكن مقارنة تجميد الحكومة الألمانية معوناتها لكل الفلسطينيين، جميعهم بلا استثناء، مع قرار معرض فرانكفورت بإلغاء مراسيم تكريم عدنية شبلي؟

أشاهد مقاطع مسجلة لرجال شرطة ألمان ضخام الجثة يلكمون بقسوة شابة ترتدي كوفية فلسطينية، يضربونها في وجهها مرات متتالية، في مشهد آخر رجل شرطة ألماني يدهس بحذائه العسكري شموعاً موقدة على أرواح الضحايا الفلسطينيين، يفعل ذلك بدأب، يطفئها شمعة شمعة ويسحقهم جميعاً، بتشف وخيلاء. هل من رابط بين كل هذا العنف وعنف معرض فرانكفورت الرمزي؟

ألغيت الندوة بعد انسحاب المشاركين جميعاً، باستثناء كاتبة واحدة. المسألة لا تتعلق بسياسات "الإلغاء" التي مورست ضد شبلي كونها فلسطينية، بل إن جماعة بشرية بأكملها تم نفيها خارج شروط الاعتراف، بحكم قرارات القوى المتحكمة في النظام الدولي. بالمثل، قام معرض فرانكفورت وغيره من مؤسسات ثقافية غربية، بإلغاء عقد الاعتراف المتبادل-غير المنصف في الأساس- من طرف واحد. لم تكن الندوة سوى طقس احتفالي للاعتراف. وكان انسحابنا في النهاية مجرد تحصيل حاصل بعد بُطلان عقد لم يعد موجوداً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها