الأربعاء 2023/10/25

آخر تحديث: 11:42 (بيروت)

الشعر يعود إلى المعركة.. لكن بالحرس القديم

الأربعاء 2023/10/25
الشعر يعود إلى المعركة.. لكن بالحرس القديم
لا تصالح...
increase حجم الخط decrease
اعتدنا أن يطرح سؤال الشعر في سياق الحرب المندلعة، والثورات الحاشدة، واللحظات الساخنة والمحتدمة. فدائمًا ما كان الشعر سبّاقًا في متابعة الأحداث الآنيَّة، على عكس كل أشكال الكتابة الأخرى. ولطالما كانت الأحداث في فلسطين مناسبة لظهور قصائد جديدة، حتى لو كان الكثير منها زاعقًا أو مدرسيًّا. وعلى امتداد السنوات، خلّفت لنا القضية الفلسطينية تراثاً شعرياً شديد الزخم للائحة طويلة ومدهشة لكبار الشعراء العرب، دعمت القضية وأضافت في الوقت نفسه لجماليات الشعر العربي.

لكن الأمر تراجع كثيراً الآن. اكتفينا مع كل اعتداء جديد/مأساة جديدة، باستدعاء القصائد القديمة لمحمود درويش وأمل دنقل وسميح القاسم وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم، ولم يظهر الجديد إلا على استحياء.

لماذا؟! الإجابة ليست سهلة، ولا تتعلق بالشعر وحده، فحتى هؤلاء الرموز أنفسهم تساءلوا عن جدوى استدعائهم، ولم يصلوا لإجابة شافية. محمود درويش مثلاً انتقد المسألة برمتها -ربما قبل أن يصبح رمزاً. انتقد ربط صيحة الحرب بحماسة الشعر، واعتبار الشاعر معلقاً على الأحداث أو مراسلاً حربياً. بل قال بوضوح: "نحن هامشيون في الحرب" يقصد الشعراء، واعتبر أن بوسعهم في مثل تلك الأوقات أن يقدموا خدمات أخرى أكثر فاعلية. لكنه قال بعدها ما يؤكد حيرته هو نفسه أمام السؤال الصعب، فتساءل: إذا لم تولد القصيدة الآن، فمتى تولد؟ وإذا ولدت في ما بعد، فما قيمتها الآن؟!

هنا يحاول خمسة من الشعراء إعادة البحث في هذه اللحظة الحرجة، في نصوص سعوا من خلالها إلى ايجاد إجابة للسؤال الصعب...



علاء خالد: غياب المقاومة وتغول الذاتية وتحول البوصلة
ربما السبب في عدم ظهور شعرية مقاومة جديدة، هو غياب فكرة المقاومة أصلاً عن الحياة اليومية الاستهلاكية. فقد تحوّل الاهتمام بشكل عام، سواء بالنسبة للناس أو للشعراء أو الكتّاب تجاه هذه الهموم التي أصبحت تشغل مكان المتن الثقافي، ليس في الشعر فقط، بل في الرواية، والقصة، والأفلام المستقلة. فقد حدث تحوّل في بوصلة الاهتمامات، وما حدث في الماضي، هو أنّ شعر المقاومة خرج وسط مأساة صافية، وعالم غير معقد، ليس هناك ما يشوش عليها من استقطابات الحياة الأخرى، فكانت هي الممثلة للمتن، المعبّرة عما يحدث. كما أن الشعور العام النوعي، آنذاك، إلى حد كبير، كان يعيش وسط سياق تحرري، فرضته حركات التحرّر، ووضوح فكرة الاستعمار، والصراع الحاد بين الشرق والغرب، لذا كان هذا الشعور مستنفراً باستمرار، يحتاج لهذا النوع من الكتابة ليتماهى معه، بوصفه جزءاً من هذا السياق.

هناك غياب لفكرة التحرّر، وهي المصدر الأول لهذه النوعية من الكتابات المقاومة. ولنتذكر أنه أثناء ثورة 25 يناير، ورغم قوة ما يحدث داخلياً، إلا أنه تم استدعاء الشيخ إمام وأمل دنقل ومحمود درويش، وهي أيضاً النسخ المعتمدة من المقاومة، وهذا غريب، إذ لم يخرج شكل تعبير ذاتي من شعراء الثورة آنذاك، إلا في ما ندر، وكانت كتاباتهم مخلوطة بمساحات واسعة من الهموم الذاتية. أعتقد أن السياق الثقافي، ومن خلفه الذات الشاعرة، لم يعد هذا الجانب التحرري جزءاً من أساساتها الواضحة. فالفاجعة، أو الكارثة، تزداد أو تقع من دون حضور أدوات للتعبير عنها شعرياً. وللآسف ليس شعرياً فقط، بل في مناحي الثقافة كافة، فحتى الآن لا توجد كتابات قيمة مصرية مثلاً، أو عربية حول ثورات الربيع العربي، إلا ويكون لها مصدر أجنبي.

ربما نمت أدوات أخرى غير شعرية للتعبير عن المقاومة، مثل الصورة، والأفلام القصيرة، والخرائط التي تعرض عن فلسطين، مثلاً، والأبحاث الإثنولوجية، والأنثربولوجية، والسياسية التي تهتم بتاريخ ما بعد الاستعمار. أي أن التخصص المنظم، الذي جاءت علومه ومعلوماته وأدواته من الخارج، ربما سحب البساط من ارتجال الشعر المقاوم، وبذلك حدث تشبّع معلوماتي لدى الأجيال الجديدة، والشعراء، ومتلقّي الشعر، حول فلسطين، على سبيل المثال، ربما أقوى من أي أداة أخرى للتعبير. وأيضاً ربما لم يحدث تحويل لهذه المعلومات إلى طاقة حدسية عند الذات الشاعرة المقاومة، فقد ساحت حدود الشعر المقاوم وساحت ذاكرته داخل سياقات وعلوم ومقاربات أخرى، بل وسحبت منه فاعليته، وسلبته أدواته المعرفية الحدسية، والتي كانت متوهجة فقط في السياقات الكبيرة.. التحرّر.

هذه القصائد المقاومة، عندما تُكتب الآن، تأخذ شكل وإيقاع القصيدة القديمة العمودية، كأن قاموسها يوجد في الماضي، ولا لغة جديدة، وعندما أسمعها من شعراء، سواء كانوا فلسطينيين أو عرب، أشعر بأني أشاهد فيلماً قديماً، بُعث من الماضي، غير متماهٍ معه، بيني وبينه مسافة آمنة تماماً، لا تجعلني أتمثّل هذا النوع من القصائد. وهذا لا يعني استبعاد هذا النوع من التعبير، لكن كان من الممكن قبوله لو حدث تواصل للشعر والنوع الأدبي المقاوم داخل السياق الثقافي، وكانت هناك نظرة عميقة، غير مباشرة، وقراءة خطاب جديد عن التحرّر، والنظر للعالم والمجتمع من هذه الزاوية، لأن أسباب التحرّر قائمة، والظلم له طبقات، والذات المهمشة حاضرة باستمرار. لكن للأسف، تم استقطابها فقط لتعبّر عن نفسها وليس عن الآخر، أو القضية، مكتفية بمأساتها الشخصية، التي في نظرها، هي أكبر من أي مأساة أخرى. فحدث تضاؤل وتقلّص لوجودها في السياق الثقافي. فالوعي السياسي، جزء من أي مشروع شعري تحرّري، ولغتها ليست بعيدة من الشعر، تبعاً لنظرة صاحبها.

ربما مفهوم الذاتية تمدّد الآن وتغول، واستحوذ على كل الأراضي الأخرى التي يعيش فيها الآخر معرفياً، لذا أي مأساة تخصّ هذا الآخر لا تجد الأدوات والتمثل الكافيَين للتعبير عنها. 
 

 

وليد الخشاب: مساحة للتأمل اليومي
فلسطين قصيدة في حد ذاتها. ولقد ارتبط التغني بآلام الفلسطينيين بالشعر منذ النكبة، حتى إن فلسطين قدمت للغة العربية شاعرَين كبيرَين يختلط التقدير الممنوح لفنهما بالمكانة العاطفية التي تحتلها فلسطين في القلوب: محمود درويش وسميح القاسم. نجح درويش في أن يتجاوز كونه شاعر القضية الفلسطينية ليصبح فلسطينياً كونياً بشعره، أما القاسم فقد ظل صوت النضال الفلسطيني في باب الشعر. حتى في عصر تألق الشاعرَين الكبيرين، كان التصوّر السائد في الأدب العربي عموماً هو أنّ الفن الجيد يلتزم، أي يدافع عن قضايا سياسية اجتماعية. وفي الشعر تحديداً، ساد تصور الشاعر بوصفه صوت النضال التحرري أو الاجتماعي أو الحداثي موَقعاً في تفعيلات. لهذا، كان الشعر العربي يحتفي بفلسطين باعتبار أن قضيتها، سياسياً، تمثل جوهر نضال حركات التحرر الوطني.

لكن منذ نهايات القرن العشرين، تغيرت النظرة لدور الشاعر بوصفه النبي الرائي والمثقف الملتزم. وساد تصور عن تركز قيمة الشعر، إما في اتصاله بقضايا فلسفية وفكرية كونية لا تخص شعباً بعينه، وإما في احتفائه بالصنعة الشعرية، لا سيما من حيث هي سجل للدهشة اليومية والتفاصيل العادية. في الحالتين، تراجع الاهتمام بالقضايا الكبرى في الشعر، بعد استقرار وارتخاء مشروعات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، وتكلسها في شكل دول تحرر وطني لا تسعى لتجديد التحرر، بل لتثبيت دعائم حكمها بناء على شرعية التحرر الذي وقع في الماضي. منذ نهايات القرن، لم تعد مشروعات التحرّر الوطني منبعاً سخياً للشعر، وبالأحرى لم تعد فلسطين ثيمة محورية في الشعر العربي.

لهذا السبب، كلما ازدادت حرارة الصراع والكفاح من أجل التحرر في فلسطين على الأرض، لا يجد المتظاهرون والمعلقون في المنصات أقوى من قصائد قد يصل عمرها إلى أربعين أو خمسين عاماً لتصاحب لحظة الزخم. ليس مرجع ذلك أن درويش والقاسم ودنقل يمثلون كلاسيكيات الشعر الآن، بل مرجعه هو أن شعرهم صريح في نبرته النضالية، على الأقل في مراحله الأولى المصاحبة لزخم النضال من أجل التحرر الوطني في العالم كله. بينما تميز الشعر -بالذات مع نهاية القرن العشرين- بالحرص على الابتعاد عن تلك النضالية.

لكن هذا لا يعني أن الشعر ابتعد من فلسطين، وإنما يعني أن فلسطين لم تعد علماً وصرخة من القلب، بل صارت مساحة للتأمل اليومي. شعر زكريا محمد، ينشد يوميات فلسطين من دون هتاف ولا كلام مباشر في السياسة، إلا قليلاً. لكنه ينتج خطاباً يسخر من اليأس وييأس من النضال المؤسسي ويتحايل على الوحشية بحيل تفاصيلية. فقصيدة تفاصيل تجربته مع القهر اليومي، تكشف وجهاً من وجوه فلسطين، لكنها لا تصلح لتكون شعارات في مظاهرة. وفاعليتها ليست إلهاب حماسة الجماهير، بل تعزية الفرد في وحدته وفي حدود موازين القوة في دائرة الفلسطيني اليومية.

اليوم، في الغرب، يرفع المتظاهرون المدافعون عن الحق الفلسطيني شعاراً بالإنكليزية معناه: "وجودنا هو مقاومتنا"، أي أن مجرد إصرار الفلسطيني على مواصلة الحياة كفلسطيني رغم القمع والاحتلال، هو فعل مقاومة. وفي هذا تلخيص لفاعلية شعر زكريا تامر كله. مجرّد إصراره على كتابة تفاصيله شعراً، كان مقاومة فلسطينية، يدرك فاعليتها من يفهم أن خَبز الخُبز تحت القصف، قصيدة، وأن الحديث بالعربية في ظل هيمنة لغة أخرى، مقاومة. 

 

محمد خير: القضية لم تتغير والمأساة لا تكف عن الوقوع
ربما يكمن السبب في أن طبيعة القضية الفلسطينية لم تتغير جوهرياً منذ عقود، إنه الوجع الفلسطيني نفسه، والتآزر الإمبريالي والعجز العربي نفسه، الأمر الذي عبّر عنه شعراء العربية – وشعراء فلسطين في قلبهم بالطبع – أدق تعبير، خصوصاً أنهم من أجيال عاصرت وعاشت تحولات القضية، منذ الاحتلال الأول(1948)، فالثاني(1967)، ونشأة المقاومة وحصار بيروت وغيرها، وصولاً إلى أوسلو وجدالاتها في الواقع العربي. إنهم، بهذا المعنى، أفضل من كان يمكنه التعبير عن القضية لأنها كانت جزءاً من تكوين حياتهم، بينما نشأت الأجيال اللاحقة في "فيلم أميركي طويل" أضيفت إليه أوجاع التفكك العربي في غزو الكويت واحتلال العراق وغيرها، وصولاً إلى الربيع العربي ومآلاته.

في كل الأحوال، فإن المدى الزمني بين محمود درويش أو دنقل أو أحمد فؤاد نجم وغيرهم، وبين اليوم، ما زال مدىً زمنياً قصيراً للغاية، بمقياس عمر الشعوب وبمقياس الأدب والفن، فنحن مثلاً ما زلنا نستعيد غناء سيد درويش وقصائد بيرم التونسي حين نتكلم عن "الشغالين والسقايين".

وفي الإجمال يصعب أن يعبّر الفن عن حدث لا يتوقف -للأسف- عن إعادة نفسه. ويمكن ملاحظة ذلك حتى في الفارق الفني بين الأغنيات الوطنية التي أنتجت في الخمسينيات والستينيات وبين نظيرتها التي أنتجت في العقود اللاحقة، على الرغم من أن الصنفَين كانا غالباً من إنتاج الدولة وبرعايتها، وعلى الرغم من أن بعض الأغاني الجديدة والقديمة صنعه الفنانون أنفسهم، إلا أن الفارق ظل كبيراً لصالح المجموعة الأولى، التي عبّرت عن الحدث في لحظة وقوعه وتحدّيه، لا في لحظة استعادته من الذاكرة في مناسبات معينة. بالطبع، التفاعل مع فلسطين مسألة مختلفة، إنه ليس استعادة، بل على العكس، إلا أنها المأساة التي لا تكف عن الوقوع إلى حد أن المجازر صارت تختلط على الناس، وهو أمر ربما يحلّ فيه الاكتئاب محل الاستجابة الفنية. 
 

 

محمد المتيم: طبيعة الشعر والزمن والواقع الفلسطيني
لقد أمضيتُ أكثر من أربع سنوات، أعمل في منصة ثقافية فلسطينية، استطعت من خلالها الاقتراب من الكتابة الفلسطينية بشكلٍ يومي من خلال عملي محررًا للمواد التي تتوافد من مختلف المدن الفلسطينية، والحق أقول: لقد أسهَمَ هذا في بلورة صورة للأدب الفلسطيني -في ذهني- تختلف كثيرًا عمّا يمكن أن نسمِّيه "الأدب الموسمي" الذي يطفو على مياه الأحداث الاستثنائية.

هل توقفت الكتابة عن فلسطين ومنها؟! قطعاً لم تتوقف يومًا، حتى بمعزل عن لحظات الاشتعال العام، لكن تجلياتها اختلفت بتطور الحِسّ الثقافي والأدبي العربي. إذ يمكننا أن نرصد اختلافًا جليًّا بين نمط كتابة السابِقين الذي تسألني بصدَدِه، ونمط الكتابة الآنِيّ، وربما ندرك من خلال هذا الرصد لماذا يتسيَّد أحد النمطَين على الآخر في اللحظة الحرِجَة.

إنَّ مردَّ هذا الاختلاف في تصوّري، عوامل ثلاثة: طبيعة الشعر، وطبيعة الزمن، وطبيعة الواقع الفلسطيني.

في العامل الأول، طبيعة الشعر، طرائق كتابة الشعر تتجدَّد، وبمرور الأيام يجري في النهر ماءٌ كثير، والماء الذي جرى في نهر القصيدة العربية نستطيع أن نسمِّيه -بقدرٍ من التسامح اللغوي- ماء الحداثة. فمع ظهور قصيدة النثر قُبَيْل منتصف القرن الماضي، ورسوخ قدميها في سبعينيّاته، افتقرت القصيدة العربية -من حيث البِناء- للجَرْس أو الإيقاع ممثلًا في الوزن والقافية، وهما العاملان الأهم في نعت القصيدة العربية بكونها قصيدة شفاهية، أي تُلقى فتُسمَع.

إنَّ نزوح عشرات الشعراء الجدد نحو قصيدة النثر، التي هي قصيدة مقروءة بالأساس، وتُعنى باليوميّ والهامشيّ، قياسًا إلى القصيدة الموزونة المسموعة المعنيَّة –في الغالب- بالقضايا الكبرى من الحرب للثورة للحصار، جعل الجمهور "في اللحظة الملتهبة" يبحث عمّا يُشبِه لحظَتَه شعارًا وانفعالًا، فلم يجد سوى القصائد العمودية والتفعيلية للرواد، بما يميّزها من التدفق وارتفاع النَّبْرة.

أما العامل الثاني، طبيعة الزمن وبصمة الأيام، فيجعلنا حيال ظروف "حَوْل-شعريَّة" إذا جاز التعبير، قضت بـ"برْوَزَة" بعض القصائد، حتى وإن كُتِبَت بعدها قصائد تضاهيها جماليًّا وربما تتفوَّق عليها. فعندما نتوقَّف أمام قصيدة "لا تصالح" (1976) لأمل دنقل، نجد المناخ السياسي الذي كُتِبَتْ فيه وقد أسهَمَ في رواجها، وكذلك قصيدة "مديح الظل العالي" (1982) لمحمود درويش، التي كتبها إبان حصار بيروت، وبالمثل قصيدته "حالة حصار" (2002) المرتبطة بحصار ياسر عرفات في رام الله.

ساهم ارتباط تلك القصائد بوقائع سياسية ضخمة في رواجِها عربيًّا، فانتشرت كالنار في الهشيم، وصمدت بصمود وقائع التاريخ، وراحت الجماهير تستدعيها من خزائن الذاكرة مع كل حدث يطرأ، فذلك أسهل –جماهيريًّا- من البحث عن شِعْرٍ جديدٍ نُعالِج دفعَهُ لصدارة الحدث. ثم إنَّ الأجيال، مثلما تتوارث الأفكار والقضايا، تتوارث كذلك الأدب الذي يحملها، وقلَّما تتكبَّد عناء البحث عن حوامل عصريَّة للمحمولات القديمة!

أما العامل الثالث، فهو طبيعة الواقع الفلسطيني، فالكاتب الفلسطيني استيقظ ذاتَ صباحٍ فوجد نفسَهُ مطرودًا من الواقع ومنفيًّا في الأسطورة، وهذا ليس حطًّا من شأنه بل ربما كان بقصد رفْعِه إلى مصاف الأبطال الخارقين في صمودهم وصلابتهم، فأراد أن يعود للأرض، إنسانًا عاديًّا، لا بطلًا ولا خائنًا. أراد أن يتحرّر من سجن الأسطورة، فراح يكتب أدبًا يربِّي فيه دجاجَهُ، ويحرث حقلَه، ويخاف ويرتبك ويُلقي النكات ويقلق -مثل أيّ بَشَريٍّ- بشأن أسعار البندورة والحليب.

حاول الفلسطيني في قصيدته الجديدة العودة إلى الحياة، فكتب "العاديَّات"، لكن الحرب والحصار غير عاديَّين، ومن هنا كانت قصائد الجيل الأسبق، مواليد النكبة، وشباب النكسة، وكهول الانتفاضة، هي الأقرب للحدث الحالي، لا للزمن الحالي. 
 

 

عبد الرحيم يوسف: الأصول القوية لا الظلال الباهتة
أعتقد أن أي تغيير له أسباب عديدة. قد يرى البعض أن السبب هو تغير نظرة المتلقين للشعر وانصرافهم عنه، أو اعتبار الوسائط الجديدة، من صور ومقاطع فيديو مصورة أو معدة مع خلفيات موسيقية أو مؤثرات صوتية، هي المعبّر الأقوى عما يحدث. الشعر نفسه تغير ولم يعدْ في جزء كبير منه، وبالذات الجزء الطليعي أو المهتم بالعمق والإضافة، مهتماً بمجاراة الأحداث والغناء والتعبير المباشر. لن تعدم وجود شعراء مغنين ومنشدين وسريعي الاستجابة، لكن في رأيي قصائد درويش ودنقل وسميح وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم والأبنودي أكثر قدرة في التعبير وأبعد باعًا في الغناء والانفعال، والتجارب المعاصرة ما زالت تدور في فلك هؤلاء الشعراء، أو تقصر عن الوصول إلى ما حققوه. فتجدنا نميل إلى العودة إلى هذه الأصول القوية بدلاً من الظلال الباهتة.

عن نفسي، أذكر أن أول محاولة لي لكتابة الشعر كانت العام 1982 وأنا في السابعة من عمري! كتبت قصيدة اسمها "لبنان" انفعالاً بمشاهدتي للأخبار والاجتياح الإسرائيلي، وما زلت أحتفظ بهذه القصيدة الساذجة بالمناسبة. ومع انتفاضة 1988 كتبت عدداً من القصائد الساذجة المنفعلة، ومع انتفاضة 2001 كتبت أغنية لحنها الموسيقي السكندري وائل السيد وغناها المطرب السكندري محمد متولي ضمن أغاني فرقة غنائية اسمها "أمواج" انفضّت العام 2003. وأذكر أني انفعلت مع ثورة 2011 وكتبت أغنية أيضاً. في كل مرة كنتُ أجد نفسي ميالاً إلى كتابة الأغاني، لكني أنظر إليها بصراحة كتنفيس عاطفي، كمحاولة لتنظيم فوضى المشاعر، لا كقصيدة يمكنني أن أنشرها أو أضمها إلى ديوان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها