الخميس 2023/10/12

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

"بيت في القدس" لمؤيد عليان.. حكايات السكّان الأصليين

الخميس 2023/10/12
increase حجم الخط decrease
يُظهر فيلم "بيت في القدس"(*) للمخرج الفلسطيني مؤيد عليان، مرة أخرى، قدرة الإنسان على التفاوض مع مخاوف وأشباح الماضي، سواء بدافع إحساس العار أو الذنب؛ مثلما يؤكّد على ضرورة سبر دروب ومقاربات مبتكرة لرواية الحكاية الفلسطينية، خصوصاً في زمننا الراهن الزاخر بمنظورات وخطابات إنسانية عوراء وانتقائية تساوي المجرم بالضحية. العمل الثالث لصانعه يأتي فيلماً لافتاً ويستحق المشاهدة ويقدّم جديداً في مقاربة الرواية الفلسطينية، بنقلها إلى أرض النوع السينمائي عبر حكاية تمزج أدوات السينما الجماهيرية بأدبيات البحث التاريخي الاجتماعي وتعيد في الوقت ذاته نفض التراب عن أسئلة قديمة وأزلية تخصّ القضية والتراجيديا الفلسطينية المستمرة.

تنطلق حكايته من منبعٍ بعيد في أوروبا لتستقر أخيراً في فلسطين. فجأة، تنتقل الصغيرة ريبيكا (مايلي لوك) من إنكلترا إلى إسرائيل مع والدها اليهودي مايكل (جوني هاريس). تأتي هذه الخطوة عقب مقتل والدة ريبيكا في حادث سيارة رافقتها فيه ابنتها المكلومة قبل عام. نجت ريبيكا من الحادث، لكنها لم تتجاوز صدمتها. يريد مايكل أن يبدأ حياة جديدة في القدس مع ابنته، على أمل أن تكون هذه البداية الجديدة بادرة شفاء من ماضي ابنته المؤلم، والفيلّا القديمة لوالديه الراحلين في القدس الغربية تناسب ذلك الطموح تماماً. لكن ريبيكا تفتقد والدتها ولا تجد وقتاً للحداد والحزن عليها بسبب هذه النقلة الفجائية. فيما يفضّل مايكل الاحتفاظ بحزنه لنفسه، كما يتضح من جلسات بكائه الليلية.

لكن بعد ذلك يأخذ الفيلم منعطفاً لافتاً. عندما تكتشف ريبيكا دمية خزفية في بئرٍ بالحديقة، تبدأ في اختبار ظواهر غريبة وخارقة للطبيعة. تشعر أن هناك مَن يطارد المنزل باستمرار. ثمة روح هائمة في الأرجاء. بالطبع لا يصدّقها والدها، ويُرسلها لتلقي العلاج النفسي. وبالمثل، لا يفيد المعالج أيضاً، إذ يصف أدوية لريبيكا تساعد على "النوم بشكل أفضل".

منذ بداية الفيلم، يضع عليان (بشكل مبهرج قليلاً) اللبنات الأولى لمزاج عمله، عبر اللعب بتقاليد النوع (المعني هنا أفلام البيت المسكون، على وجه الخصوص). مبكراً، على سبيل المثال، يظهر غرابٌ منذراً بالشؤم بينما تجلس ريبيكا في الحديقة. وما أن يظهر الشبح (كما يحدث في أفلام الرعب)، حتى يأتي على هيئة فتاة فلسطينية في مثل عمرها اسمها رشا (شهرزاد مخول فاريل)، يذكّر مظهرها الشاحب بالوحش في الفيلم الياباني الشهير "رنين" (1998، هيدو ناكاتا). انفصلت رشا عن عائلتها العام 1948. سرعان ما تساور المتفرّج الشكوك: لا بدّ أن عائلة الفتاة الفلسطينية سكنتْ المنزل قبل استيلاء دولة الاحتلال الإسرائيلي عليه عقب النكبة.


وهكذا يموضع السيناريو (الذي شارك عليان في كتابته مع شقيقه) رسالته البسيطة والذكية بشكل مكثّف في بنية فيلم يتبنّى عمداً نمطَ الأفلام المألوفة في قصصها لدى المتفرّج العام (حتى وإن تسبّب هذا السعي في بعض المزالق والاختيارات الفنية غير الموفّقة). يتضح منذ البداية أن الدراما المبنية حولها قصّة الفيلم بأكمله ليست إلا وعاءً لأمثولة أو حكاية رمزية للطريقة المروّعة التي حُرم بها الفلسطينيين من ممتلكاتهم وأراضيهم. ومثلما يتقن مايكل إخفاء حزنه على فقيدته، يفضّل عدم الحديث عمَّن عاشوا سابقاً في ما صار منزل والديه. يصل الصراع بين الأب وابنته إلى ذروته، بالرغم من تلك الدموع التي يزذرفها مايكل، وحتى إنه ربما يشعر بالذنب تجاه عائلة رشا المُهجّرة. من ناحية أخرى، تنظر ريبيكا إلى العالم بعقل متفتّح وينتهي بها الأمر في فلسطين لاحقاً، بعد رحلة عبور/كشف تبدأ من القدس وصولاً إلى بيت لحم (حيث سكنت عائلة رشا في مخيم عايدة للاجئين)، في أحد أجمل مشاهد الفيلم.

"بيت في القدس" روائي/أدبي في منظاره وحميمي في معالجته، واستكشاف صادق لذاكرة شخصية وتاريخية مُقدَّمة عبر وجهة نظر مؤثرة لفتاة يهودية فضولية ثكلى. بأسلوب صناعة فيلم تشويقي سيكولوجي، يجمع عليان وجهة نظر الجمهور بشكل وثيق مع منظور ريبيكا، ما يسمح للفيلم بدمج العناصر الخيالية والواقعية بسلاسة للحصول على تأثير أدوم يسكن دواخل المتفرّج، مثلما تداوم الأشباح على تأريق مشاعر جمهور سينما الرعب. هو دراما استبطانية، بالرغم من الحوارات العديدة المتثاقلة بين الطفلتين التي تلمّح إلى تفاعل وتأثير متبادل. مثل محققة شرطية، تقرّر ريبيكا البحث عن ماضي صديقتها الجديدة. لا يستطيع المارة رؤية الفتاة الفلسطينية، وبالتالي يتضح دور رشا في حياة ريبيكا كوسيلة للتعامل مع وفاة والدتها المأسوية. الفتاة الفلسطينية نفسها تفتقد عائلتها أيضاً، لكنها، كما تقول، يجب عليها البقاء في المنزل في حالة عودة أبيها وأمّها.

"بيت في القدس" عمل معقّد من الناحية الهيكلية وغني بالموضوعات، يرسم روابط متجذّرة بين شخصياته المختلفة وبنياته السردية بحيث يقوم كل منها بتغذية العناصر الأخرى ورفدها وتوضيحها. طموح مؤيد عليان في ربط حزنٍ شخصي بحالة وطنية من الحداد الممتد لـ75 عاماً يفضي إلى إنجاز فيلم غريب وحزين وكئيب، يتجاور فيه الحزن الفردي والصدمة الجماعية أثناء محاولة هاتين الفتاتين المكلومتين معالجة وفهم مشهد معقّد من الأذى والعجز ومراكمة المظالم. "بيت في القدس" هو ذلك الفيلم النادر الذي يصبح أكثر تأثيراً وعمقاً عندما تفسح ألغازه وغوامضه المجال للواقع اليومي، واقع شعب اُقتلع من أرضه ولا يزال يناضل من أجل العودة.

(*) شهد مهرجان روتردام السينمائي الدولي في بداية هذا العام، العرض الأول للفيلم، الذي نال جائزة فيبريسي للنقاد الدوليين. الفيلم إنتاج مشترك بين المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا وقطر وفلسطين، حيث لا يزال المخرج مؤيد عليان يعيش ويعمل في مدينة بيت لحم.
ومن المنتظر عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في الدورة المرتقبة من مهرجان القاهرة السينمائي (15 – 24 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها