الثلاثاء 2023/01/31

آخر تحديث: 17:40 (بيروت)

"قالت" لماريا شريدر.. اغتصابات هوليوود ونهاية عهد الصمت

الثلاثاء 2023/01/31
increase حجم الخط decrease
كان السقوط مدوياً وتأثير الدومينو أكبر من إمكانية إيقافه.
بعد نشر أول تحقيق صحافي في صفحات جريدة "نيويورك تايمز"، في أكتوبر2017، حول المنتج السينمائي الأميركي ذائع الصيت هارفي واينستين وسلوكه المنحرف تجاه النساء لمدة عقدين على الأقل؛ أصبح الرئيس السابق لشركة "ميراماكس للإنتاج والتوزيع السينمائي" رمزاً للإساءات والأعمال الإجرامية المتغاضى عنها في صناعة السينما، كما غيرها من أماكن العمل. انكسر ميثاق الصمت وفتحت بوابات التنديد، ولم تُغلق من حينها، وبدأت حركة "أنا أيضاً" كتيارٍ جارف لا يمكن إيقافه. في نهاية فيلم She Said(*)، للمخرجة ماريا شريدر، يظهر نصّ في الشاشة يفيد بقضاء واينستين حالياً حكماً بالسجن لـ23 عاماً، وأن فضح قضيّته ساعد العديد من النساء على تجاوز مخاوفهن لإخبار ورواية تجاربهن المؤلمة بعد بقائها مدفونة تحت أختام الألم والعار و/أو اتفاقيات السرّية الابتزازية.

الفيلم نفسه يأتي ضمن هذا التيار الصاعد منذ انفجار سلسلة الاعترافات والجرائم، فهو فيلم نسوي ونسائي بامتياز. مخرجته هي الألمانية ماريا شريدر (1965)، الممثلة المتحوّلة إلى الإخراج (في رصيدها أفلام بارزة مثل "ستيفان تسفايغ: وداعاً أوروبا"، "أنا رجلك"، وحلقات مختلفة من المسلسل القصير "غير ملتزمة"). أما السيناريو فيأتي بتوقيع البريطانية-البولندية ريبيكا لينكيفيتش ("إيدا" و"عصيان"، بالإضافة إلى باكورتها الإخراجية المنتظرة في العام المقبل "حليب ساخن" عن رواية بالعنوان ذاته للكاتبة ديبورا ليفي)، والمستند بدوره إلى التحقيق الصحافي - المتحوّل لاحقاً إلى كتاب فاز بجائزة "بوليتزر" – الذي أجرته الصحافيتيان جودي كانتور وميغان توهي، بجريدة "نيويورك تايمز"، على مدى شهور لتتبّع ضحايا واينستين وإقناع بعضهن بالحديث. التصوير أيضاً تتولّى مهمّته الأرجنتينية ناتاشا براير. كما إن الفيلم، بالطبع، تتولّى بطولته مجموعة من النساء، تتقدّمهما الشخصيتان الرئيسيتان (زوي كازان وكاري موليغان تلعبان الدورين ببراعة، وحضورهما في موسم الجوائز أكثر من مؤكد).


مفتاح نصّ ريبيكا لينكيفيتش، كلاسيكي بطبيعته. يأخذ في اعتباره تقاليد وأساليب أشهر "الأفلام الصحافية"، مثل "كل رجال الرئيس" (1976، آلان ج. باكولا) أو أحدثها مثل "المنشور" (2017، ستيفن سبيلبيرغ)؛ فتضع حبكته الصحافيتين جودي كانتور وميغان توهي، اللتين  تعملان تحت سقف واحد ولكن بشكل منفصل في غرفة التحرير بجريدة نيويورك الشهيرة. يؤسس الفيلم شخصيتيهما كامرأتين بسيطتين، مثل غيرهما: كل منهما زوجة، أمّ، مهنية مخلصة، ومثل غيرهما من نساء يجمعن بين الأمومة والعمل لديهما متاعبهما ومشاغلهما الخاصة.

ومثل فيلم "كل رجال الرئيس"، يبدأ الأمر بمعلومة/شرارة صغيرة. خطّ تحقيقاتهما السابقة يضعهما في أثر خطوات المنتج السينمائي الشهير، بناءً على سلسلة من شكاوى وحكايات قديمة منسية يصعب التحقق منها. وحتى أكثر من ذلك، عندما لم ترغب أي من ضحايا المنتج المفترضات ممن تعرّضن لتحرّشه - وفي أكثر من حالة، للاعتداء الجنسي الصارخ - في الكشف عن أنفسهن علناً، نظراً لاحتمال وقوع أعمال انتقامية من شخصية نافذة بالقدر الذي كان يُخشى منه. عندئذ تصبح نقطة انطلاق البطلتين رأساً لكرة محيطها غير معروف تماماً.

من الصفر (تقريباً) إلى نشر التحقيق إياه، يرافق الفيلم هذه الملحمة المهنية مع تلميحات إلى الحياة الخاصة للصحفيتين، يحيطهما حضور مستمر لشخصيات ثانوية ذات صلة، خارج غرفة التحرير وداخلها، عنصر سردي جيد آخر عزيز على السينما الأميركية. ما يميّز "She Said" عن غيره من الأفلام "النسائية" في زمن ما بعد واينستين، هو رصانته ودقّته، وبُعده من أي نوع من الإثارة المجانية، ووفائه لوجهة نظر بطلتيه، من دون إساءة استخدام ذكريات الماضي أو حشو الوقت والحبكة بعناصر "صَحَوية" أخرى رائجة.

مثل أسلافه من "الأفلام الصحافية"، يشيد فيلم شريدر بمهنة الصحافة وأهميتها، إنما يضيف إليها هنا إشارة إلى أهمية مهنة معرّضة لخطر الانقراض: الصحافة الاستقصائية الميدانية، بعيداً من الشبكات الاجتماعية كمصدر للأخبار، المتجذرة في منهج التدقيق المزدوج والثلاثي للبيانات والمعلومات، المتأصّلة في نسيج المجتمع ومؤسساته. تقوم كانتور وتوهي بزيارات مفاجئة لمصادرهما المحتملة، وتحاولان الاقتراب من وثائق سرية يصعب الوصول إليها، وتركبان الطائرات لمقابلة نساء مكلومات لا يرغبن، في البداية، في نبش الماضي المؤلم.

"لقد سرق صوتي عندما كنت على وشك العثور عليه"، تقول إحدى الشخصيات/الضحايا والدموع في عينيها. من المحتمل أن يحتوي التحقيق الأصلي على تعقيدات أخرى وأن المسار لم يكن خطياً، كما يظهر في الفيلم، لكن الأمر يتعلّق هنا بتقديم نسخة مؤفلمة لا تخون أسباب التحقيق أو عواقبه أو أشكاله. في لمسة من القوة الدرامية، تُعلي من أثر عبارة "مستند إلى قصة حقيقية" الشهيرة، تظهر في الفيلم الممثلة آشلي جود، أول شخصية مشهورة تحدّثت علانية عن واينستين وأساليبه الملتوية في تسعينيات القرن الماضي، وتلعب شخصيتها الحقيقية في مشاهد عديدة، للتذكير بأنه وراء بهرجة الأضواء وأزيز النجومية هناك نساء من لحمٍ ودم يواصلن محاولة كسب عيشهن من مهنتهن.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.

هامش: مؤخراً، تمت إدانة هارفي واينستين بالاغتصاب في محاكمة في لوس أنجليس، وهي الإدانة الثانية للرجل الذي كان يوماً واحداً من أبرز صانعي الأفلام في هوليوود. وبعد مداولات استمرت تسعة أيام، دانت هيئة المحلفين -المكونة من ثمانية رجال وأربع نساء- واينستين (70 عاماً) بارتكاب جريمة الاغتصاب والجماع القسري عن طريق الفم وهتك عرض امرأة واحدة، لكنها برّأته من التهم المتعلقة بضحية ثانية مزعومة.

وأمضى قطب السينما القوي، عامين من حكم بالسجن لمدة 23 عاماً بتهمة الاغتصاب والاعتداء الجنسي في نيويورك. ودِين واينستين بالاغتصاب وتهمة أخرى بسوء السلوك الجنسي تتعلق بعارضة أزياء وممثلة إيطالية قالت إنه ظهر من دون دعوة عند باب غرفتها في الفندق خلال مهرجان سينمائي في لوس أنجليس العام 2013. ولم تتمكن هيئة المحلفين من التوصل إلى حكم بشأن اتهامه بالاغتصاب من قبل جنيفر سيبل نيوسوم زوجة حاكم كاليفورنيا الديموقراطي جافين نيوسوم، ولم تتوصل إلى حكم بخصوص اتهامات تتعلق بامرأة واحدة أخرى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها