الثلاثاء 2023/01/31

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

أورفيوس ومعشوقته أوريديس في العالم السفلي

الثلاثاء 2023/01/31
increase حجم الخط decrease
طرحت دار "سوثبيز" للبيع مؤخراً، عشر لوحات زيتية قيّمة تعود إلى عصر الباروك، منها لوحة تمثل أورفيوس ومعشوقته أوريديس في العالم السفلي، تُنسب إلى فنان إيطالي غزير الإنتاج، ترك في مدينته بولونيا العديد من الجداريات واللوحات، ويُدعى غايتانو غوندولفي.

ينتمي هذا الفنان إلى عائلة ضمّت العديد الفنانين، أوّلهم شقيقه أوبالدو الذي سبقه إلى الدخول في هذا الميدان، ثم ابنه ماورو الذي سافر إلى فرنسا وعاد إلى بولونيا ليعمل معه، ومن بعدهما إبنا أوبالدو: جيوفاني باتيستا ولورنزو، وإبنا ماورو: ديموقريطو وكليمنتينا. وُلد أوبالدو في خريف 1728، وتوفّي في صيف 1781، تاركاً مجموعة من الزيتيات المسيحية، ومجموعة من الجداريات الميتولوجية. في المقابل، أبصر غايتانو النور في صيف 1734، ورحل في صيف 1802، تاركاً كذلك مجموعة كبيرة من الزيتيات والجداريات المسيحية، إضافة إلى عدد محدود من الأعمال الميتولوجية، منها جدارية في قصر ميريندوني، أنجزها بين 1775 و1782، وتمثّل ديانا، آلهة الصيد والقمر الرومانية التي خلفت أرتيميس الاغريقية.

منذ أكثر من عشر سنوات، عرضت دار كريستيز للبيع زيتية من الحجم الصغير تمثل أورفيوس ومعشوقته أوريديس في العالم السفلي تُنسب إلى غايتانو غوندولفي. ويحتفظ المعرض الوطني في لندن برسم بالقلم يعود إلى هذا الفنان، يشكّل كما يبدو مشروعاً لهذه الزيتية. يتبع المصوّر في عمله النهج الذي ساد في عصر الباروك، متبنياً حركة دينامية تتجلّى في كل عناصر تأليف العمل وصياغته التشكيلية. وسط كهف تضيئه ألسنة من اللهب، يظهر أورفيوس معانقاً أوريديس وهو يتطلّع إلى الخلف، وتظهر رفيقته في حركة موازية محدّقة بطرف عينها إلى الوراء، رافعة ذراعها اليمنى إلى الأعلى في حالة من الجزع والرهبة. في الجزء الأسفل من الصورة، نرى آلة كمّان ملقاة على الأرض بين قدمي أوريديس، وأفعى تخرج من صخرة وتنسل نحو قدم أوريبيدس اليمنى.

واليوم، تطرح دار سوثبيز زيتية أخرى من الحجم الصغير تمثل الموضوع نفسه وتُنسب كذلك إلى غايتانو غوندولفي، واللافت أن متحف تيسي في مدينة لومان الفرنسية يملك لوحة مماثلة لهذه اللوحة، كما أن القصر الملكي في رومانيا كان يحوي لوحة ثالثة مماثلة، لا نعرف أين أضحت اليوم. تأليف هذه الزيتيات الثلاث، واحد، ويشابه تأليف زيتية دار كريستيز من دون أن يماثله. هنا، لا يلتفت أورفيوس إلى الوراء، بل يرفع رأسه نحو الأعلى شاخصاً باتجاه السماء، والآلة الموسيقية التي تظهر أرضاً عند قدميه ليست كماناً، بل قيثارة. كذلك، لا تلقي أوريديس بطرف عينها إلى الوراء، بل تنظر إلى الأسفل، وكأنها ترمق الأفعى التي تزحف على الصخر بين قدميها العاريتين.

تعود قصة أورفيوس وأوريديس إلى العصر الإغريقي، غير أنها اكتملت في العصر اللاتيني، وعادت إلى الواجهة بقوة في عصر الباروك، بالتزامن مع صعود الدعوة إلى استلهام الميراث الميثولوجي القديم. أورفيوس، كما تقول المصادر القديمة، هو ابن إياجر، ملك تراقيا، وكاليوبا، ربّة الفنون. كان شاعراً وحكيماً، كما أنه كان عازفاً ساحراً، أبدع في العزف على القيثارة التي تلقاها هدية من الإله أبولون، حتى أن الحيوانات المتوحشة كانت تهرع إليه لتصغي له بانصياع تام، مثلها مثل الطيور التي كانت تقف فوق أغصان الأشجار المحيطة به. وقيل بأن الصخور والأشجار والرياح كانت تنتقل لتلحق به مأخوذة بسحر عزفه العجائبي.

أحبّ هذا العازف الحكيم، حورية من حوريّات الغاب، تُدعى أوريديس، وفي يوم زفافه منها، تعرّض لها أريستيه، إله البراري، فسارعت إلى الهرب منه، واثناء هربها، لسعتها أفعى في قدمها، فقضت نحبها، وحزن أورفيوس عليها حزناً عظيماً، ونزل إلى مثوى الأموات بحثاً عنها، وخاطب هاديس، سيّد العالم السفلي، واستحلفه بأن يحرّر أوريديس من الأسر، واسترسل في دعائه وهو يعزف على قيثارته، فاستجاب سيّد العالم السفلي لهذا الدعاء، ووافق بأن تعود إلى أوريديس إلى أورفيوس، بشرط ألا ينظر إلى الوراء قبل ان يخرج من وادي الموت ويبلغ سطح الأرض. سار العاشق مع معشوقته في الظلمات، وعندما بلغ حافة سطح الأرض، خشي أن تفلت منه، فتلهّف لرؤيتها، والتفت إليها، فاختطفها الموت من جديد، وحاول عبثاً أن يهبط مرة ثانية إلى الجحيم، فعاد خائباً، وانقطع عن الناس إلى أن مات، فبكت عليه الطيور والحيوانات البرية، وتعرّت الأشجار من أوراقها حداداً عليه، وفاضت الأنهار من دموعها على فراقه.

صاغ فيرجيل هذه القصة شعراً في القرن الأول قبل الميلاد، وتبعه أوفيد في مطلع القرن الميلادي الأول، ثم لوكيوس سينيك بعد بضعة عقود. مع عصر النهضة، وهو عصر "الولادة الثانية" لميراث روما القديمة، خرج العديد من القصص الميثولوجية من الظل إلى النور، ومنها قصة أورفيوس. في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، استعاد جاكوبو دا سيلايو هذه القصة في ثلاث لوحات تشكل ثلاثية تشكيلية واحدة. في اللوحة الأولى، ظهر أورفيوس وهو يعزف بين الحيوانات والطيور، وفي الثانية ظهرت أوريديس وهي تهوي بعدما لسعتها الأفعى، وفي الثالثة ظهر أورفيوس في الجحيم ساعياً إلى إطلاق معشوقته من مملكة الظلال والموت. وفي مطلع القرن السادس عشر، صاغ المعلّم تيتيانو قصة العاشقين في زيتية محفوظة في متحف أكاديمية كارارا في مدينة بيرغامو. وفي زمن الباروك، تعدّدت اللوحات المكرّسة لهذه القصة الأثيرة، ولعلّ أشهرها زيتية من توقيع بول روبنس، محفوظة في متحف البرادو.

سار العديد من الرسامين على هذا الدرب في نهاية القرن السابع عشر، منهم جيوفاني أنطونيو بوريني وفيديريكو شيرفالي. وتشكّل زيتيات غايتانو غوندولفي، استمرارية لهذا التقليد في القرن الثامن عشر، وفيها يحضر من جديد اورفيوس وأوريديس "في ممر منحدر، وعر، يغطيّه ضباب كثيف"، كما كتب أوفيد. يلتفت العاشق إلى معشوقته "مجروفاً بحبه"، ويتمسّك بها، قبل أن تهبط من جديد "في الهاوية التي كانت خارجة منها".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها