الإثنين 2023/01/23

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

"نسوان من لبنان".. إسكندر الرياشي مؤرِّخاً بالغرام

الإثنين 2023/01/23
"نسوان من لبنان".. إسكندر الرياشي مؤرِّخاً بالغرام
أنسي الحاج: "طرافته أنه يتعرى بالكامل ويتحداك أن تجاريه"
increase حجم الخط decrease
إسكندر رياشي يلخصه أنسي الحاج بجملة واحدة "طرافته أنه يتعرى بالكامل، ويتحداك أن تجاريه"، ويقدمه لقمان سليم بأنه "الرجل ذو الوجوه الكثيرة حتى ليظن أن لا وجه له، وإنما وجهه الأقنعة التي لا يفتأ يبدلها".

والرياشي صحافي وكاتب ومترجم ومغامر وسياسي وزير نساء، وهو إلى ذلك صعلوك أنيق، صحافي تائه في حياته الشخصية والعامة، ولد في الخنشارة في جبل لبنان حوالى 1890 على مغارب القرن التاسع عشر، أي الهزيع الأخير من عمر السلطنة العثمانية، قبل ثلاثين عاماً من ولادة لبنان الكبير على يد القابلة الفرنسية. ولأنه يتخصص في كل تلك المزايا التي تحسب على المغامرة الجريئة، فبوسعه أن يشفع بالبلد الصغير فوق ما يسع القديسين والأولياء والأبطال والشهداء من ذوي السير العطرة، ولطالما رأى بأنه له حق على لبنان، وليس العكس. وهذا أمر يستند إلى ما راكمه من تجارب حياتية ومعارف كتبية، وفوق ذلك بما ارتضاه لنفسه من "نهج حياة ومنهاج".

بدأت حياته بالمغامرة، وفي العشرين من عمره اقتحم عالم الصحافة والكتابة، وسافر إلى أميركا وأسّس جريدة "الوطن الجديد" في نيويورك بدعوة من السيدة نجلا مطران، التي استدعته من لبنان من أجل إنشاء جريدة زحلية (نسبة إلى مدينة زحلة). بعد ثلاث سنوات عاد الرياشي إلى لبنان، وراسل جريدة "الطان الفرنسية"، ومن بعدها أسس جريدة "البردوني" في زحلة، وأوقفها ليتولى أول أيام الانتداب الفرنسي وظيفة مستشار في المندوبية العامة لحاكم زحلة الفرنسي. وأسس العام 1922 جريدة "الصحافي التائه" بعدما استقال من وظيفته. وظل يعمل في هذه المهنة حتى أصبح نقيباً للصحافة اللبنانية العام 1947 فمارس أعمال النقابة دورتين متتاليتين حتى العام 1950. وعلى ضفاف عمله الصحافي أصدر كتباً عديدة أثارت زوابع كثيرة، واشتهر منها على نحو خاص "نسوان من لبنان"، "قبل وبعد"، "رؤساء لبنان كما عرفتهم"، "الأيام اللبنانية"، "نعيش مع الآلهة" (بالفرنسية)، "أهل الغرام"، و"مجانين ومجنونات الحب" وغيرها.

الالتفاتة إلى إحياء الرياشي جاءت من لقمان سليم، الكاتب والمترجم والشريك في "دار الجديد" (والذي تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الثانية لاغتياله)، إلى جانب شقيقته رشا الأمير. وهي دار خرجت منذ فترة بعيدة عن مألوف دور النشر التي تحولت إلى ماكينات لطبع الكتاب والمتاجرة بها، من دون أن يكون لها دور في الفضاء الثقافي. ومن بين محاولات التجديد المبتكرة التي قامت بها "الجديد"، إعادة تقديم كتب ذات قيمة خاصة، مثل طباعة أول ديوان أصدره أنسي الحاج "لن" لما يحمله من قيمة فنية ورمزية في مسار هذا الشاعر الرائد في قصيدة النثر.

وضمن هذا التوجه بدأت محاولة نفض الغبار عن الرياشي الصحافي والكاتب، وكانت البداية من إعادة إصدار كتابه "نسوان من لبنان" بطبعة أنيقة، قام بتقديمها والإشراف عليها لقمان سليم قبل اغتياله في شباط 2021، وصدرت بمناسبة مرور السنة الأولى على اغتياله بمقدمة طويلة وتفصيلية أنجزها سليم وعنوانها "عن لبنان وشفعائه الشياطين" قدم فيها هذا الكاتب الذي تعرض للإهمال لأسباب كثيرة، منها الأسلوب الذي كتب به، وعدّه كثيرون تجاوزاً للكثير من الممنوعات، ورآه بعض آخر يسخر من مجتمع ذلك الوقت، بينا اعتبره أنسي الحاج يمارس عملية تعرية الذات، وهذا أمر يطغى على أسلوب الكتابة الذي يميل إلى النقد العاري المجرد من كل الاعتبارات والحسابات.

قصص كتاب "نسوان من لبنان" تدور بين محطات ثلاث مهمة، تبدأ بنهاية المرحلة العثمانية، مروراً بالحرب العالمية الأولى، والانتداب الفرنسي على لبنان. وعلى ما يحمله الكتاب من شطحات، وكي يقطع الشك باليقين، يؤكد "الصحافي التائه" أن "هذا الكتاب وقائع حقيقية، قام بها كاتب يريد أن يأخذ من الدنيا مباهجها، تاركاً الزهد، والتكفير والخوف من جهنم ومخاوف الدهر". وعلى "صهوة النثر المدهش" يمكن لصاحب هذا الكتاب وحده القول: "تنزل كتبي إلى السوق يوم الاثنين، ولا يبقى منها نسخة واحدة يوم السبت".

موضوع الكتاب هو مغامرات الرياشي النسائية التي تقدمه كدونجوان ظريف أراد أن يعيش في فردوس دائم للغرام. وهو على قدر من الثقافة واللباقة ومعرفة بأحوال المكان والزمان، "طويل القامة، حَسن الهندام، أسمر اللون، كثيف الشعر، كثير التأنق والادعاء". وهي مغامرات تمتد من لبنان إلى سوريا وتذهب نحو فرنسا وأميركا تبعاً لتنقلات الكاتب ورحلاته التي سافر خلال بعضها على ظهور البواخر بين فقراء لبنان الذين كانوا يقصدون أميركا، ومع أغنى أغنياء العالم على ظهر الباخرة "الأمبراطور"، حيث تقمّص شخصية حفيد الكاردينال الفرنسي دو ريشليه، لأنه لم يكن يروق في ذلك الزمان لكثيرين الانتساب الى لبنان، لما كان لكلمة "تركو" (ولبنان كان معدوداً من تركيا) من ثقل على سمع الأميركان، وأهّله التنكر بشخصية نبيل فرنسي لكسب صداقة حسناء أميركية شابة وثرية جداً، ابنة صاحب فندق وايلرد في تكساس، وكانت تطمح إلى أن تقرن اسمها بلقب نبيل أوروبي، ويشابه ذلك استطابة جماعة البترول العربي شراء غزلان لبنان بالكرم ذاته والأسعار العالية. لكن أمر الرياشي انكشف بعد تسعة أيام من الحب المتواصل، فجرى طرده من النعيم الأميركي. وبعد ثلاث سنوات تزوجت الفتاة أليس، من محافظ نيويورك الذي ترشح للرئاسة الأميركية، ولسوء حظ الرياشي فهو لم يفز بالمنصب، وإلا لكانت توثقت علاقته مع الولايات المتحدة.

الفترات التي لم يسجل فيها تاريخ البلدان بدقة، عادة ما يتم تحريها من خلال الحوادث الاجتماعية، ويصف رياشي مؤلفه هذا بأنه "كتاب عظات سياسية واجتماعية متحلية بحكايات ومغامرات غرام صاخبة، يأتي فيها الكثير من تاريخ لبنان الحديث". ومن ذلك يروي أن "ثلث أهالي جبل لبنان ماتوا جوعاً في تلك الحرب، الثلث الثاني لم يمت جوعاً لأنه هاجر للبقاع بعدد ضعيف، وهاجر لدمشق وحوران بعدد أكبر حيث سهول القمح ومراعي المواشي، والأراضي الفياضة بمياهها ومزروعاتها، وأما الثلث الثالث فقد استطاع أن يعيش بوسائله الخاصة، ومتاجراته واستثماراته وتجويعه للغير، وأغنياء أمواله السياسية. وكان من الثلثين الأولين فئة معروفة قليلة العدد، لكن كثيرة الوقاحة، عاشت متحدية الجوع والشقاء".

لم يسبق لمؤرخ أن رسم صورة للبنان خلال الحرب العالمية الأولى بهذا الوضوح والاختصار. ومن هذا المنظور يصلح كتاب الرياشي مرجعاً لتقصي أحوال المجتمع اللبناني السوري في المرحلة الانتقالية من بداية القرن العشرين، حينما كانت سوريا على وشك خلع الثوب العثماني العتيق الذي لبسته أربعة قرون وصار بالياً، وبدأت تتحضر لترتدي ملابس جديدة تناسب الموضة التي وصلت مع الانتداب الفرنسي في العام 1920، والذي ولدت منه دولة لبنان الكبير.

وعلى قول أنسي الحاج، فإن الرياشي الذي يعري نفسه، وضع حياته على الورق كما هي، ومن ذلك أنه لا ينزه نفسه حين يتحدث عن مراحل الانحطاط، بل يتكلم بصراحة عن كل ما واجهه من مواقف صعبة: "نحن لم نَجُع، لكننا لم نشبع. لم نجُع لأننا عرفنا بوسائلنا الخاصة الطريقة لأن نبقى في هذا العالم، فامتهن الواحد منّا كل المهن التي كانت الأقدار تؤديه إليه، من دون أي فارق إن كانت تلك المهن شريفة أو غير شريفة، حقة أو مجرَّمة".

هذا النمط من الكتابة ليس بالهين والسهل، بل هو على قدر عال من الجرأة إذا درسنا سببه ومدى تأثيره في جو الصحافة والكتابة حينذاك، وفي الوقت الذي تلاه حتى الحرب الأهلية التي أخذت لبنان بعيداً من مكانه ومكانة نفسه كنافذة مفتوحة بين الشرق والغرب، وأرض لقاء لمختلف التيارات التي كانت تتنازع في العالم العربي، وكانت الصحافة ودور النشر والمدارس الحديثة والجامعات هي من لعب الدور الأساسي في تكوين الصورة التي بقيت تتدحرج حتى آلت إلى الحال المأسوي التي هي عليه اليوم. ومن هنا يشكل إحياء كاتب من وزن الرياشي محاولة ذات قيمة خاصة لأنه أبعد، مثلما يشير لقمان سليم في مقدمته إلى عدم استساغة مجايلي الرياشي لصراحته في القَصّ، علاوة على نفورهم من أسلوبه في الكشف، ولم يشفع له أنه كان صحافياً وأديباً ومترجماً، وله علاقاته السياسية.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها