الخميس 2022/09/01

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

التذكّر كفِعل سوريّ

الخميس 2022/09/01
increase حجم الخط decrease
ضمن مهرجان Syrien N'est Fait في باريس، افتتح معرض "ذاكرات ذاتية (Galerie Nouchine Pahlevan)، الذي دار، ومثلما يشير عنوانه، حول العلاقة التي تجمع الذاكرتين السوريتين، الخاصة والعامة.

هذه العلاقة، برع في تقديمها خمسة من الفنانين السوريين، وهم محمد عمران، ورندا مداح، وأحمد ناجي، وبيسان الشريف، وريم يسوف. براعتهم هذه لا ترتبط بحِرَفية عملهم فحسب، بل أيضاً، بكون كل منهم استطاع أن يرتكز على ذكرى بعينها من عيشه من أجل أن يبين ما فيها من حال سوريّته، باعتبارها مطرحاً حيث يتكثف الماضي، أو باعتبارها موقعاً حالياً. فصحيح أن المعرض، الذي جمع هؤلاء الفنانين، يتناول الذاكرة، لكن هذا لا يعني أنه يستند إلى مَواضيهم، إنما، وبالإضافة إلى ذلك، هو قدم شيئاً ما حول حواضرهم.



فعلياً، لا بد أن يبدأ الحديث عن "ذاكرات ذاتية" بعمل ريم يسوف، واستحقاقه لذلك مردّه أن هذا العمل على قيمة لا لبس فيها. فعلى نسخ من صورة لها، لوجهها، في حين كانت طفلة، تضع يسوف عوازل مشبعة بمواد مختلفة، ما يجعلها شبه مرئية. بالتالي، تصير النسخ تلك محجوبة بما يشبه صفائح مترسبة إذا صح التعبير. على هذا النحو، يغدو وجه يسوف على سبيل محدد، وهو سبيل اضمحلاله. قد يكون هذا السبيل هو ما أرادت الفنانة أن تبديه، وهذا، بما هو سبيل شرّعته "الكارثة"، أي ما أفضت إليه الحرب على السوريين. يبين عمل يسوف أنّ هذه "الكارثة"، وعندما تصيب المتعرضين لها، فهي تحاول محو ذاكرتهم، بما هي، هنا، ذكرى رحلة مع الأسرة، وبما هي صورة لطفلة، لا يمكن سوى التنبه إلى كون وجهها تحت الصفائح يشكل عنواناً لفرح منصرم. في المقلب نفسه، يمكن اعتبار عمل يسوف كبورتريه لما يتبقى من الذاكرة في أثر "الكارثة": لا يبقى منها حاضرها المشبع بالوجع.

لكن، إن كانت يسوف تذهب إلى علاقة الذاكرتين الخاصة والعامة مباشرة، فمحمد عمران يفعل ذلك مواربة في رسومه. مواربته هذه تقوم على أنه يقدم لوحة سوسيولوجية لجمع من الشخوص المتداخلين عمودياً، بمعنى أنهم يقفون على بعضهم البعض. انتظام هذا الجمع على هذا الشكل الهرمي، يجعله، من ناحية، قاسياً، ومن ناحية أخرى، بلا صِلات، وفي النتيجة، يبدو أنه جمع بلا اجتماع. بالطبع، وصف هذا الجمع بهذه الطريقة يساوي أنه جمع مسحوق بالسلطة، بكل ما تنتجه فيه من عنف. لكن عمران يقدم هذا الجمع بألوان وردية، كما لو أنه، وبسخريته، يحاول أن يبينه على عكس ما هو عليه، لكي يشدّد الإشارة إلى وضعه. السخرية، في هذا السياق، ليس لونيّة فحسب، إنما هي سخرية "ذاكرتية" أيضاً: لتذكّر كل هذه القسوّة لا بدّ من السخرية منها، وإلا فهي تطيح الذاكرة نفسها. 

في السياق نفسه، هناك عمل رندا مداح، الذي تقدم فيه، وعلى لوحة شبه سوداء، مجسّماً لشخص في أثناء سقوطه المعلّق، بحيث أنه مربوط من قَدمه بخيط. قد تصح إحالة هذا السقوط إلى كونه سقوطاً في الذاكرة، إلى كونه تذكّراً، بما هو غطس فيها. هذا السقوط، ومثلما جسدته مداح، لا يمكن أن يحصل بالكامل، أي لا يمكن سوى أن يكون، وفي لحظة معينة، معلّقاً. ففي حال العكس، يفضي إلى الرزوح في الماضي، في جحيمه. ما يهم في عمل مداح أن لوحة السقوط هذه تفضي الى لوحة أخرى متطابقة معها، كما لو أن النزول الى الذاكرة لا يؤدي سوى الى سواها. بالإضافة الى ذلك، لا يمكن سوى التنبه إلى كون المجسم الساقط مجسماً على سمات طفولية، كما أنه مربط اليدين. فالنزول الى الذاكرة فيه شيء من الولادة، لكن التخلص مما يُقيد لا يحصل سوى من بعده.

على أن ذاكرة أحمد ناجي عمل لا يدور حول السقوط، إنما الصعود. فينطلق، في عمله الفوتوغرافي، من ذكرى السماء المقفلة التي رآها في معتقله، لكي يذهب للبحث عنها في كل مكان. على هذا المنوال، يواظب على تصوير هذه السماء، لا سيما من قلب المباني. عندها، لا تبدو مفتوحة، على العكس، تبدو، وفي الغالب من أحوالها، على اكفهرار ما. طبعاً، مردّ ذلك أن ناجي لا يلتقط سوى سماء واحدة، أي سماء المعتقل تلك، كما لو أنه، وبالتقاطها، يصعد الى ذاكرته، إلى ذكرى ما تعرض له في سوريا البعثية. على أن ناجي يذكر أن السماء لم تكن فقط مرتبطة بالمعتقل، إنما أيضاً بالانعتاق، إذ إنه كان، وفي بداية التسعينات، يصعد إلى سطح المنزل، وتحت السماء، يحاول، وعبر هوائي التلفاز، التقاط قناة أخرى غير القناة الرسمية. يمكن القول أن سماء ناجي، أو الناجي، تساوي الذاكرة بما هي موضوع صعود، وهذا الفعل حيالها، فيه انعتاق، لكن هذا الانعتاق قد ينقلب، وبفعل السجّان، إلى اعتقال، وعندها، يصير الأفق مغلقاً.

يمكن ملاحظة أن الغالب من أعمال "ذاكرات ذاتية" تشترك في كونها تبني الذاكرة السورية بجانبيها الخاص والعام على حد سواء. هذا المشترك بين هذه الأعمال كلها، أبرزه عمل بيسان الشريف بالفيديو الذي قدمت فيه التذكّر بما هو رحلة، وبما هو مصادفة ولقاء مستمر مع غائب. تقديمها له كذلك، يكاد يختصر كل ما جاء في المعرض: التذكّر ليس مجرد رجوع إلى الماضي، إنما هو تشييد له من الحاضر من أجل تدبير هذا الحاضر.. مهما كان كالحاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها