الأحد 2022/08/28

آخر تحديث: 08:51 (بيروت)

عروش خالد ضوا: قبور متوقفة عن الموت

الأحد 2022/08/28
increase حجم الخط decrease
استطاع الفنان السوري خالد ضوا أن يصنع عملاً بعينه، يكون بمثابة توقيعه الذي يميز أسلوبه عن سواه. هذا العمل، ومثلما هو معروف، هو العروش التي يواظب على نحتها، والتي أتاحت غاليري "جيرالدين بانييه" في باريس عرضها. عبر هذه العروش، يقدم ضوا علاقة السلطة، ممثلة بالكرسي، مع الجالس في سدّتها، أو بالأحرى عليها، بما هو كناية عن دكتاتور. هذه العلاقة ليست بسيطة، بمعنى أنها لا تقوم فقط بكون هذا الدكتاتور، وفي لحظة ما، يتبوأ السلطة، جالساً على كرسيها، بل إنها، وبالتوازي مع ذلك، هي أيضا تشكل هذه السلطة، ومعها، الكرسي الذي يمثلها، على طرز الجالس عليها، أي أخذها شكلها. ربما، يصح القول، هنا، إن عروش ضوا ليست الكراسي، أي غرض الكرسي بذاته، بل إنها هذه الكراسي مع جلوس الدكتاتور عليها: انها علاقة الاثنين التي تحول الكرسي إلى سلطة، والجالس عليها إلى دكتاتور، وفي الوقت نفسه، تجعلهما عرشاً، لنقل إنهما "تعرشهما". 

في هذا السياق، يمكن التوقف عند أول ما يمكن ملاحظته في عروش ضوا. إذ إن هذا الفنان ينحتها بالانطلاق من محوه الحد الذي يفضل الدكتاتور عن كرسيه، بمعنى إنهما يصيران، وبفعل ذلك، متداخلين، مختلطين، ليصنعا مع بعضهما البعض كتلة واحدة. هذه الكتلة، التي تجمعهما، والتي لا يمكن فيها الإشارة أين ينتهي الدكتاتور لكي يبدأ كرسيه، هي الشكل الهندسي للعرش، هي تصميمه، لا بل إنها صميمه. بالطبع، ضوا يشتغل على هذه الكتلة، مرة يقدّم على جعلها مجلوة، ومرات يخشنها. الفرق بين خياريه هذين يمكن تفسيرهما على أساس أنه يبين العروش في مراحل متعددة: عندما تكون متينة، وعندما تغلظ، وعندما تبدأ بفقدان صلابتها الخ. ولكن، وعلى الرغم من "مرحلته" العروش هكذا، لا يصعب القول إن هذه العروش لا تأخذ شكلها الكامل، لا تغدو على ما هي عليه، سوى حين تفرط في كونها كتلة، الدكتاتور فيها معجون بكرسيه. فالعرش الفعلي هو الذي لا يمكن تمييز جانب الكرسي فيه من رأس الدكتاتور الجالس عليه. 

فعليا، حين يبرع ضوا في مرحلة عروشه، في إبانتها على مراحل متعدّدة، هو يجعل كتلته تحت تأثير عامل محدّد، وهو الزمن. فبين عروشه، هناك تلك التي يمكن وصفها بالكتل المتآكلة، حيث الدكتاتور، ومعه الكرسي، يفقدان أجزاء منهما. ما يلفت في إبانة ضوا للعروش على هذا النحو أنها، وعلى الرغم من عامل الزمن الذي يمر عليها، فهي تبدو، وفي جانب منها، على وضعها من دون تغير. على العكس، يبدو العامل الزمني أنه يزيد من "عرشيتها" اذا صح التعبير. فإذا كان الدكتاتور هو الذي، وما أن يجلس على الكرسي، حتى يجعله كرسيه بطريقة نهائية، فالزمن يجيء، وبمروره، ليحقق ما يشبه حلمه: الموت في الكرسي، أو الموت في الكتلة التي تنم عن اختلاطه مع هذه الكرسي إلى درجة الفناء. أنها صوفية الدكتاتور في حين أن ربّه هو عرشه!

بهذه الطريقة، لا يعود من الصعب التنبه إلى أمرين في عروش ضوا. الأول، أن الدكتاتور، وبفعل اندماجه في الكرسي، بفعل فنائه واياه في كتلة العرش، هو يبدو على هيئة محددة. لا جسد للدكتاتور، ولا جسم، بل إنه، وعلى كرسيه، يجثم. بعبارة اخرى، يمكن القول إن للدكتاتور "جِثماناً" ينطوي على الكرسي، والكرسي تنطوي عليه، يتمدد صوبها، وتتمدد صوبه، يلتف حولها، وتلتف حوله. "جثمان" الدكتاتور هذا لا يعني انه جثة، ولكن، لا يعني انه حي. وفي هذه الناحية، الأمر الثاني الذي لا مناص من التنبه اليه في عروش ضوا. الدكتاتور "جثمان"، ولكن، ماذا عن الكرسي في علاقته معه؟ يتحوّل الكرسي من مقعد إلى مسند، ومن كرسي حمام إلى حائط، أما، وفي أوجه، فهو يصير قبراً، وسمة هذا القبر أنه معطل. إذ إنه لا يبتلع الدكتاتور بالكامل، ولذلك بالتحديد، هذا الدكتاتور ليس جثماناً، انما "جثم" متآكل، ولكن، لم يحصل موته بالكامل لانه قبره لا يبتلعه ولا يرميه. 

ما العرش إذا؟ إنه "جثمان" دكتاتور معجون في قبر متوقف عن الحياة والموت، والعلاقة بينهما تنتج العرش ككتلة مرصوصة، لا فراغ في أي سدة من سداته. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها