الأربعاء 2022/07/06

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

فتيات الراب العربي: نِدّية في وجه الاستخفاف

الأربعاء 2022/07/06
increase حجم الخط decrease
هن لا ينافسن، بعد، أسماء مثل "شب جديد" و"مروان بابلو". لكنهن حاضرات وواثقات من حضورهن وسط عمالقة مشهد الهيب هوب العربي، الذكور طبعاً. إنهنّ نساء "السين"، مغنيات الراب اللواتي يثابرن، منذ مدة غير وجيزة، على شق طريقهن بخطى ثابتة وواثقة من الهامش الى قلب عالم يستأثر به الذكور ويتجاهل الأصوات الانثوية، بل ينظر إليها بوصفها دخيلة عليه.

كانت بدايات الراب العربي الأنثوي منذ قرابة عقد من الزمن، مع مغنيات مثل اللبنانية مليكة التي لقبت نفسها بـ"ملكة الهيب هوب"، والفلسطينية شادية منصور الملقبة "بالسيدة الأولى للهيب الهوب". كما كان للمغرب العربي تجربة رائدة في هذا المجال مع بروز "سلطانة"، صاحبة أغنية "صوت النسا" في المغرب ومريم ساسي في الجزائر، وغيرهن في اليمن ومصر والسودان.

ومع أن مشهد الهيب هوب يعدّ اليوم، الأنجح والأكثروشعبيةً في عالم الأندرغراوند العربي، فإن ذلك لا ينسحب على المغنيات النساء اللواتي يُعتبر دخولهن إليه مجازفة، بالمقارنة مع أنماط غنائية أخرى، فيُقابَلن بالاستخفاف. لكن، بالرغم من ذلك، فإن هذه المجازفة التي خاضتها نساء الراب الأوليات قد بدأت تنضج ثمارها في السنوات الأخيرة، مع اختراق جدار الصوت الذكري من قبل مؤديات متمكنات من حيث الأداء والتأليف والإنتاج الموسيقي، بلوَرن أسلوبهن الخاص وأثبتن جدارتهن في الاستحواذ على حيّز من هذا الفضاء الفني الذي يطغى عليه الطابع الذكوري وذهنيته.

نستعرض في هذا المقال بعضاً من نماذج الراب الأنثوي في العالم العربي، وهي لا تختزل المشهد كاملاً إنما تسلّط الضوء على جوانب مهمة منه.


"مش حاستنى دوري يجيلي،" تقول الرابر المصرية بيري في افتتاحية أغنيتها "بصحتك" التي تعتمد نمط الارتجال (فريستايل). تعبّر عن نيتها بفرض حضورها بـ"لساني المسنون" وسلاح "الأوزي" ومواهبها المتعدّدة في التمثيل والإخراج والإنتاج وجمع المال وإنفاقه. و"للزميل المش قاريني" تقول بيري "ترفع الكاس وتقول بصحتك". أما في أغنية "مملكة" التي تعاونت فيها مع "أبيوسف"، وهو من أبرز الأسماء في مشهد الهيب هوب المصري، فتتباهى بيري بأنها من تكتب "الفيرسات" وليست مجرّد مؤدية، داعية مستمعيها الى تلقيبها بالأيقونة و"كوين اللعبة". تتحدث بيري عن اعتلائها سلّم الشهرة والنجاح مع "كل تراك بتنزل"، بحيث صار يدقّ بابها كل من تجاهلها أو "فكس لها" في البداية.

إلى جانب المساحة التي يفردها الراب، للحديث عن الذات واستعراضها، فإن كثافته النصية تفسح مجالاً واسعاً أيضاً لطرح قضايا سياسية ومجتمعية تنطلق من الذات وتتخطاها. من المغنيات الصاعدات في لبنان، سابين سلامة، التي تتناول في أغنياتها "الديستوبيا" التي يحياها الشعب اللبناني، متعدّد الأزمات والعوارض النفسية. في أغنية "دج دج طع طع"، تصف سلامة ثلة من الاضطرابات النفسية التي تعانيها، كما سائر اللبنانيين، بعد انفجار مرفأ بيروت، منها "الصدمة والارتباك والاحساس بالذنب والخوف إلخ...".


عند تقاطع النفسي بالسياسي، تتحدث سلامة عن الحرب النفسية التي يخوضها الشعب اللبناني، أو بالأحرى تخاض ضدّه، مع واقع عبثي فيه تفاوت شاسع في القوة والقدرة على إنزال العنف بين طرف مسلّح بالأمونيوم وآخر "فرده بلاستيكي". لا تفتقر لهجة سلامة للسخرية، التي تستخدمها لتعرية تفاهة الموت اللبناني حين تشير الى "خصم مسالم"، يقتل عن طريق الخطأ، ثم يقول "sorry قوصتك"، فتجيبه سلامة "مني قدها عنتر.. سلاحي والله معتر.. أنا سقفها وقفة منقل".

الجدير بالذكر أن كثيرات من مغنيات الراب العربيات، بخلاف المغنين الذكور، مقيمات في دول أجنبية، وذلك يسهل دخولهن عالم الهيب هوب، لا سيما حين يتناولن مواضيع حساسة وسجالية مثل الدِّين وحقوق المرأة. من المغنيات الأجرأ، نذكُر منى حيدر، وهي سورية الأصل مقيمة في ميشيغان، تلقي "فيرساتها" باللغة الانكليزية. إحدى سمات حيدر المميزة، الى جانب إلقائها المتمرّس، إرتداؤها الحجاب، ما يمثّل في حدّ ذاته موقفاً سياسياً في سياق أغنياتها التي تنتقد بحدّة رجال الدين وسطوة المجتمع الذكوري على جسد المرأة وقرارها.

في أغنيتها "dog" (كلب) التي تخصّ بها الذكور اللاهثين خلف أجساد النساء وتنعتهم بالكلاب، لا تستثني حيدر "الشيوخ" ومرتدي العمامات والكوفيات الذين يلاحقونها في مواقع التواصل الاجتماعي. تسترسل حيدر في فضح نفاق الذكور العرب حين يختبئون خلف ذريعة الإسلام من أجل تقييد حرية المرأة والانقضاض على جسدها. تتهمهم بممارسة "العنف الروحي" و"الانحراف المتخفي". أما في أغنية "حجابي"، فتنتقد حيدر الطرف الآخر، أي الغرب الذي يتعامل بإكزوتيكية مع المرأة المحجبة. لهذا الغرب المستشرق تقول "لقد سئمت من افتتانك بي.. فأنا لستُ رحلتك الاكزوتيكية".


إن استخدام النساء للراب كأداة لإبراز أنفسهن والتغني بها، يشكّل تهديداً بالنسبة للمجتمعات المحافظة التي، وإن سمحت للنساء بالكلام، فإنها تفعل ما بوسعها لإبقاء أصواتهن خافتة. في السعودية مثلاً، ومع سياسة الانفتاح التي تنتهجها الدولة، أضحى الغناء ممكناً بالنسبة للسعوديات، فأصدرت ليسا عيد في العام 2018 أغنية "سقنا 10/10 تحسبني أمزح" التي تحتفي بقرار رفع الحظر عن قيادة المرأة في السعودية.

وبينما رحّب الجمهور السعودي والعربي بأغنية عيد، فقد شنّ في المقابل حملةً ضدّ "أصايل سلاي" التي أطلقت أغنية بعنوان "بنت مكة" مرفقةً بفيديو كليب يُظهر شباناً وشابات سافرات يرقصون على أنغام الموسيقى. تتغنّى أصايل بخصال الفتاة المكّية، من "جمال يلسع" وشجاعة "ينشدّ فيها الظهر" وأصالةٍ تعطيها الأحقية باعتلاء "الدكة". هذه الكلمة الأخيرة- وهي ترمز في اللهجة الحجازية الى "المقعد المرتفع"- استوقفت المستمعين المغتاظين على اعتبار أن الدكة هي "للشباب الصيّع" وليست "للفتيات المحترمات".


علماً أن الأغنية لا تتضمن كلمات بذيئة أو مشاهد غير أخلاقية أو أي ايحاءات عن تجارب المرأة السعودية مع القمع والاضطهاد، إلا أن تجرؤ أصايل على التغزّل بأوصاف المرأة الجسدية، وتشبيهها بأصناف من الطعام (لبنة وعسل وسكر نبات...)، جعلها عرضةً للمحاسبة المجتمعية والقانونية. وقد تمّ توقيف أصايل وسائر فريق الانتاج والتحقيق معهم على خلفية مسّهم بهوية المجتمع السعودي والإساءة لتقاليد أهالي مكة وقدسية المدينة المكرمة. وبالإضافة الى البُعد الجندري، لعبت النزعات العنصرية دوراً في إدانة أصايل، فهي سمراء البشرة ومتحدرة من أصول افريقية، مما ينفي حقها في الانتماء الى الثقافة السعودية أو تصويرها، في رأي المعترضين.

نهايةً، لا بدّ من طرح السؤال حول جواز تصنيف هذه النماذج من الهيب هوب النسائي تحت مسمّى الفنّ النسوي؟ الملفت في هذا النوع الموسيقي أنه ليس من الضروري أن تطرح مؤدياته قضايا معينة كي يندرج خطابهن ضمن خانة التعبير النسوي. الشكل هنا يتفوق على المحتوى. فالراب، بما هو لغة الأنا الندّية، يمثّل القالب المثالي لاستعراض الأنا الأنثوية، بما يحمله هذا الاستعراض من أبعاد سياسية مباشرة أو ضمنية. يكفي أن تغني النساء عن أنفسهن، أن يمتلكن سردياتهن، أن يكتشفن ذواتهن بالكتابة والقول، كي يكتسب هذا الغناء صفة النسوية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها