الأحد 2022/07/31

آخر تحديث: 08:42 (بيروت)

فيلم "إقناع".. جين أوستن خفيفة ومبهجة

الأحد 2022/07/31
increase حجم الخط decrease

من خلال ستة روايات والعديد من القصص القصيرة، أصبحت جين أوستن واحدة من أشهر الكتّاب اقتباساً على الشاشة، بما مجموعه أكثر من 30 فيلماً ومسلسلاً. الآن ينضم إليهم فيلم "إقناع"(*) للمخرجة كاري كراكنيل في أولى تجاربها الإخراجية، عن رواية بنفس الاسم للكاتبة، هي الأخيرة في ما نشرته من أعمال.



حين ظهر أول المقاطع الدعائية للفيلم، تذمّر بعض محبّي أوستن بشأن ما تضمّنه من لغة عامية معاصرة غريبة على روايات الكاتبة، والبطلة التي تومئ إلى الكاميرا بملاحظات وتعليقات ساخرة. في مراجعته للفيلم في صحيفة "الغارديان" البريطانية، اتهم الناقد المخضرم بيتر برادشو هذه النسخة السينمائية الجديدة من "إقناع" (الثانية سينمائياً، والثامنة على الشاشة بحساب تلك المُنجَزة للتلفزيون) بتقليد المسلسل الكوميدي "فليباغ"، فضلاً عن اتهامها بالسطحية والاستهزاء بالأصل الأدبي. وهذا حديث يحتاج بعض المراجعة.

السمة الأكثر بروزاً في "فليباغ" (إلى جانب عدميته ومخادعته وسخريته) هي التواطؤ الذي تؤسسه بطلة الحكاية، الوحيدة والجاحدة، مع المُشاهد، وذلك بفضل تعليقاتها ذاتية المرجعية (غالباً ما تكون مُدمِّرة ومخرّبة)، والتي تحطّم ما يسمّى بـ "الجدار الرابع" (الجدار الخيالي الذي يفصل الممثلين عن جمهورهم ). بطلة الحكاية في النسخة السينمائية الجديدة من "إقناع" تفعل ذلك أيضاً، لكن هذا ليس شيئاً جديداً أصلاً: بدءاً من حكايات "باغز باني" الكرتونية في الثلاثينيات وما بعدها، بما في ذلك جان بول بلموندو في "حتى آخر نفس" (1960، جان لوك غودار)؛ صار حديث الشخصيات/الممثلين إلى المُشاهد أحد كلاسيكيات الحداثة السينمائية. فيبي والر بريدج، مبتكرة وبطلة "فليباغ"، لم تخترع النظرات المتعمّدة إلى الكاميرا أو التعليق على الخيال الذي نشاهده.

كذلك، لم يكن للعديد من أفضل النسخ السينمائية لروايات الكاتبة البريطانية علاقة تذكر بلهجة و/أو سياق الأعمال الأصلية، مثل "يوميات بريدجيت جونز"، أو النسخة الأخيرة من "إيما"، من بطولة آنيا تايلور جوي. لذلك، فالحديث عن تقليد الفيلم لأسلوب مسلسل كوميدي شهير بعينه، ليس دقيقاً. في مثل هذه الحالة، ما يهمّ هو أن الوسيلة السردية تعمل بنجاح، بالتناغم مع تحديث طريقة العرض، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الروح الكوميدية للأصل، للإفضاء في النهاية إلى فيلم رومانسي وساخر وكوميدي واعٍ بذاته، مثل جميع أعمال السيدة أوستن. في الواقع، مشكلة هذا الاقتباس الأحدث لروايات أوستن تأتي من مكان آخر تماماً، أنه يحاول أن يكون جميع الإصدارات في الوقت نفسه: مخلص وعاطفي، هزلي وغريب، أنيق، ساخر، وصائب سياسياً. كونه لا يزال قادراً على الإقناع والإثارة في بعض الأحيان لغزٌ حقيقي يمكن تفسيره بكلمتين فقط: داكوتا جونسون.

آنا إليوت (داكوتا جونسون، مبهجة كالعادة)، شخصية أوستِنية بامتياز، 27 سنة، غير متزوجة، ذكية جداً وجميلة، لكنها فقدت سحرها بعد إقناعها بعدم الزواج من حبّها الأول، كابتن البحرية فريدريك وينتورث (كوزمو جارفيس)، لتسحقها الأعراف الاجتماعية للطبقة العليا في أوائل القرن التاسع عشر التي تنتمي إليها. لا يملك فتى البحر المالَ ولا المكانة الاجتماعية، ولذا فهو لا يضاهي الادعاءات العالية لأرستقراطية - وإن كانت متداعية - السير والتر إليوت، والد آن (ريتشارد إي جرانت). يفترق العاشقان، لكن بعد ثماني سنوات من الاكتئاب، يقرر النصيب والرواية أن تلتقي الابنة الوسطى لآل إليوت (الشبيهة بسندريلا، في مرتبة الخادمة بين أختيها المغرورتين)، بالصدفة البحتة من جديد، الرجل الذي رأت فيه حبّ حياتها. من هناك إلى بقية الحبكة، سنقابل الحبّ والشكّ والتنافس والمصلحة، في لعبة قديمة قِدم الإنسان ومشاعره تقدَّم هنا بنَفَسٍ جديد وإيقاع شبابي.

الفيلم من تأليف رون باس وأليس فيكتوريا وينسلو، اللذين يقدّمان نسخة محدَّثة من "إقناع" سريعة الخطى وخفيفة القلب ومبهجة. تأتي الرسميات المميزة لأفلام تلك الفترة كالمعتاد، لكن آن فتاة عصرية: بتسريحات شعر حديثة، وتشرب من زجاجة النبيذ مباشرة من أجل نسيان حبيبها، وتحتفظ في صندوق تذكاراتها بقائمة تشغيل - حرفياً - قدّمها لها فريدريك، تتكون من حزمة من النوتات الموسيقية المطبوعة. لم يخشَ الكاتبان ولا المخرجة بشأن التحديث الأسلوبي في السيناريو أو طريقة عرض الرواية. في حديث لمجلة "فوغ"، قالت المخرجة: "كنا نأمل حقاً أن يساعد الفيلم على التواصل مع جمهور جديد أو أصغر سناً. انجذبتُ إلى اللغة والموضوعات المُحدَّثة أحياناً، وكسر الجدار الرابع والتحدث مباشرة إلى الجمهور، وحقيقة أن المرأة القوية الإرادة لا تزال موضوع نقاش هذه الأيام كما كانت في ذلك الوقت".

المهم والأساسي التأكيد عليه هنا، أنه بغض النظر عن مدى حداثته، فإن "إقناع" لا يسقسق ولا تهرب منه الخيوط. على عكس الحديث الناقد عن الإفراط والمبالغة في الحديث إلى المُشاهد، فإن تعليقات آنا إلى الكاميرا تجعل الأخيرة أفضل صديق لفتاة وحيدة تعيش حياتها عبر ارتكاب الأخطاء والحماقات، وإبداء الملاحظات الأكثر وضوحاً والضحك على نفسها وعلى كل شرور هذا العالم. "أحبّني، أيها الأحمق!"، تبكي بيأس على سريرها في غياب الرجل الذي امتلك من اللطافة ما يكفي لإعطائها خصلة من شعره وأخرى من حصانه. حتى ظهور هذا الفيلم لم يكن الكابتن وينتورث معروفاً برقّته التي تظهر هنا. أشياء كهذه يلعب معها الفيلم طوال حكايته وسرده اللعوب، من دون أن يصير كلاسيكية معاصرة، لكنه في الوقت لا يتنازل عن فتح نافذة جديدة لإدخال بعض الهواء المنعش إلى نصّ جين أوستن لم تكن الكاتبة لتعارضه أبداً.

 

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها