الأحد 2022/07/17

آخر تحديث: 09:15 (بيروت)

"متعة" البورن وكوابيسه

الأحد 2022/07/17
"متعة" البورن وكوابيسه
يتبع الفيلم فتاة سويدية تصل إلى لوس أنجلوس بهدف أن تصبح نجمة إباحية
increase حجم الخط decrease

"البورن" ليس كما كان من قبل. لا أعرف ذلك بشكل مباشر، وإنما استناداً إلى المقارنة بين البورتريه السينمائي (المصوّر برومانسية ودرامية) لصناعة الأفلام الإباحية في السبعينيات الذي رسمه فيلم "بوغي نايتس" (1997، بول توماس أندرسون)، وبين الصورة (الخام والواقعية) التي يُظهرها الفيلم السويدي "متعة"(*) للمخرجة نينجا ثايبرغ. على مدار عشرين عاماً، غمرت صانعة الأفلام السويدية نفسها في هذا العالم، وبمساعدة العديد من الأسماء الفاعلة في الصناعة، أنجزت باكورة إخراجية لافتة وجريئة.

منذ بدايته، يعرف المتفرج أنه لن يشاهد هنا فيلماً تقليدياً عن صناعة الأفلام الإباحية. ومن الواضح أيضاً أنه، خلف الكاميرا، ثمة نظرة غير أميركية، مستعدة لفضح نفسها، لتحمُّل بعض المخاطر التي يجرؤ قليلون على خوضها اليوم. يقع هذا الفيلم - إن أردت - في منتصف الطريق بين فيلمي "فتيات الاستعراض" (1995، بول فيرهويفن) و"نجمة صاعدة" (2012، شون بيكر)، باشتماله على الصراحة الجنسية للأول والنبرة الطبيعية وشبه الوثائقية للأخير. ويروي الفيلم، الدائرة أحداثه بالكامل تقريباً في لوس أنجليس، بطريقته الخاصة قصة رويت ألف مرة، عن وصول شابّة إلى هوليوود تدفعها الرغبة في النجاح والصعوبات والتناقضات التي تمرّ بها في محاولاتها تسلّق "السلم الاجتماعي" للصناعة. الفارق أنه في هذه الحالة تكون الصناعة هي صناعة الإباحية، والبطلة هي فتاة تبلغ من العمر 19 عاماً وصلت لتوها من السويد.

المشهد الافتتاحي في المطار لا يسمح للمُشاهد بالابتسام على الإيماءة الساخرة التي تعطي الفيلم عنوانه فحسب، وإنما على وضع البطلة كوافدة طازجة إلى لوس أنجليس، فتاة بيضاء شقراء (الممثلة صوفيا كابيل في أول أدوارها أمام الكاميرا)، كما يمكنك تخيّل أي سويدية، تجاوزت لتوها السنّ القانوني، ولأسباب لا تستكشفها الحكاية، قررت عبور المحيط الأطلسي لتجرّب حظّها في بيزنس الإباحية في "عاصمة الشوبيز". لحسن الحظ، لا يحتاج الفيلم إلى اختراع صدمة لتبرير قرارها، حتى إنها في مرحلة ما تُلقي نكتة حول الأمر يصعب سماعها اليوم في اي فيلم أميركي حول الموضوع.

بيلا شيري - هذا هو اسمها المهني - سرعان ما تبدأ العمل، وربما أول ما يفاجئك هو أن العالم الذي تتنقّل خلاله يبدو أكثر تقليدية وحتى روتينية مما قد تعتقده من موقعك خارجه. مثل أي وظيفة، تتطلب صناعة الإباحية تدريباً. ليس فقط لتنظيف نفسها بشكل صحيح، وإنما أيضاً للابتسام طوال الوقت، لمعرفة كيفية الوقوف بشكل أفضل للصور، والأهم، الاستعداد لكل شيء. كل شيء. يتعامل المديرون ووكلاء العمل بالإضافة إلى المخرجين وزملاء العمل مع الأمر بطريقة احترافية تماماً، وحتى إن كانت عمليات التصوير حميمية لأقصى درجة وكانت اللقطات المقرّبة صريحة تماماً، فإن كل شيء يستمر كمهمة روتينية تتكوَّن بدءاً من الظهور في موقع التصوير، مروراً بتوقيع وتصوير عقد توافقي، وتغيير الملابس، ووضع المكياج، والقيام بكل ما يطلبه المخرج في إطار ما اتفق عليه الطرفان. المفارقة تكمن في حقيقة أن الإباحية هي النوع الفيلمي الأكثر واقعية على الإطلاق، لكن كونك ممثلاً أو ممثلة إباحية يتطلّب التمثيل. مثل أي ممثل، عليك تزييف المتعة، والألم، والآهات والنشوات. وتواجه بيلا شيري وقتاً عصيباً مع كل ذلك.

قد يكون من الخطأ وصف الفيلم بـ"الإباحية الوجودية"، نظراً لأنه ليس إباحياً على الإطلاق. الأكيد أنه وجودي. أول مخرج تتعاون معه بيلا يعرّفها على أنها "فتاة عذراء". مَن العذراء المقصودة، هي أم الفتاة التي من المفترض أن تمثّلها في الفيلم الإباحي؟ أو ربما كلاهما؟ في هذا التداخل بين الشخص وشخصيته (أو الذات وصورتها) يكمن الكثير مما يقوله الفيلم. يخلط الممثلون الجادّون أحياناً بين شخصيتهم وشخصهم، في إحدى الطرق المعروفة لتلبُّس الأدوار أمام الكاميرا. في الإباحية تصبح المسافة بين الكينونة والمظهر مخيفة. فما بين "الموضوع الدرامي" ونظيره الحقيقي، تنعدم المسافة. القضيب والمهبل حقيقيان، والأطراف الاصطناعية والإيلاجات حقيقية أيضاً.  

على الرغم من الدور الساذج الذي صُنعت لتلعبه، لا تفتقر بيلا إلى الطموح. عندما تلتقي إحدى الممثلات "السوبر ستار" في المجال، جميلة ومتغطرسة مثل أي نجمة (اسمها آفا، مثل غاردنر)؛ تقع في حبّها على الفور. ليس بدافع الحب أو الرغبة: بيلا تريد أن تكون آفا. للقيام بذلك، سيتعيّن عليها العمل لدى وكالة تضمن الوصول إلى القمة. للوصول إلى القمة، كما نعلم، عليك تقديم تنازلات. في هذه الحالة، يكون الأمر مرهوناً بأداء أفلام إباحية عنيفة وشاقة. في تجربتها الأولى في مجال "الهاردكور"، يتضح أن الأمر ليس بسيطاً: يجب أن تُضرب وتعنّف ويُبصق عليها (ولا شيء مزيّفاً هنا)، كما في أفلام الويسترن القديمة. في مرحلة ما، ستُهان زميلتها من قِبل أحد النجوم الذكور، أثناء تصوير مشهدٍ إباحي، انتقاماً منها على إهانته سابقاً في حفلٍ عام حضره أعلام المجال. قبلها مباشرة يتحرّش بها لفظياً وجسدياً، لكن يأتي الصوت من خارج الكادر. المثير للاهتمام أن هذه هي المرة الوحيدة في الفيلم التي يُستخدم فيها العنف الجسدي بعيداً من الكاميرا.

دون ذلك، نرى بيلا نفسها تُضرب وتُهان أمام الكاميرا، بينما حين توقُّفها نرى الممثلين/المعنّفين أنفسهم يحمونها ويعينوها. لا منتج أو مخرج أو مصوّر يلمّح حتى إلى فرض إتاوات أو رشى جنسية على بيلا أو زميلاتها في التمثيل من قبيل "رسوم أرضية" وما إلى ذلك. من المفارقات أن صناعة الإباحية مقدّمة هنا على أنها أكثر احترافية من هوليوود هارفي وينشتاين وأمثاله. بيزنس الإباحية، في الواقع، مهني مثل أي مجال أعمال آخر. وفي الرأسمالية لا يوجد عمل لا يتطلب الطموح والتنافسية وحسم الأمور. إذا أرادت بيلا الوصول إلى القمة، فعليها أن تلعب بكل أوراقها. حتى بعد إقدامها على ذلك، فعليها أن تخون صديقتها المفضّلة وإخضاع منافستها الأبرز.

عندما تصل أخيراً إلى حيث تريد أن تكون، ستشعر لينيا (هذا هو اسمها الحقيقي) بالانزعاج، كما لو كانت في غير مكانها كما كانت عندما بدأت. بهذا، يستوى الفيلم حكاية خيانة للذات وانغماس في طائفة، تستهل دائرتها بطقس قبول لازم وضروري، لكن لا يعود بعده الشخص إلى النسخة التي اعتادها من نفسه.

 

(*) يُعرض حالياً في "موبي".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها