الجمعة 2022/07/15

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

اعتقالات السينمائيين الإيرانيين المعارضين.. والغرب منشغل بالاتفاق النووي

الجمعة 2022/07/15
اعتقالات السينمائيين الإيرانيين المعارضين.. والغرب منشغل بالاتفاق النووي
من اليمين: مصطفى آل أحمد، جعفر بناهي، محمد رسول آف
increase حجم الخط decrease
أشكال سوداء على بحيرة مالحة ضخمة مثل رُسل من العالم السفلي. رجلٌ يجذف عبر البحيرة، وعند مواضع معيّنة من الشاطئ يجمع مآسي الناس، حتى لا تضيع. جامع الدموع والحسرات، والضباب الأحمر الذي تغرق فيه البحيرة، مشاهد لا تُنسى من "المروج البيضاء"، وهو فيلم مبكر للمخرج الإيراني محمد رسول آف، الذي اعتقل للمرة الأولى أثناء عرض هذا الفيلم في المهرجانات السينمائية في العام 2010. جعفر بناهي، مونتير هذا الفيلم، قُبض عليه أيضاً آنذاك. دَانه القضاء بتهمة "الدعاية ضد الجمهورية الإسلامية"، وحُكم عليه حينها بالحبس ست سنوات، والإقامة الجبرية حتى إطلاق سراحه، وحظره من مزاولة مهنته لمدة 20 عاماً، ومنعه من السفر أو التحدّث إلى وسائل الإعلام، وذلك بعد دعمه الحركة الاحتجاجية التي تلت إعادة انتخاب الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد في العام 2009.
في العام 2020، فاز رسول آف بجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي عن فيلم "لا يوجد شرّ"، لكنه لم يستطع استلام الجائزة بسبب حكم سابق عليه بمنعه من مزاولة مهنته لمدة عامين والحبس لعامٍ آخر، على خلفية فيلم سياسي آخر، "رجل نزيه" (2017)، الذي عُرض في مهرجان "كانّ" وحصل على جائزة في مسابقة "نظرة ما". منذ تلك المرة الأولى في العام 2010، غاب المخرجان الإيرانيان البارزان عن المهرجانات السينمائية الدولية، من دون أن تغيب أعمالهما. في كل تلك السنوات، كان من الممكن دعوة رسول آف، المولود العام 1972، وبناهي، المولود العام 1960، إلى خشبة المسرح لتلقي الجوائز أو ليتقلّدا موقعهما كأعضاء لجان تحكيم، أو لمجرد أن يكونا جزءاً من المجتمع السينمائي العالمي كمخرجين مدعوين لعرض أفلامهما الجديدة. لم يتمكن أي منهما من ذلك، لأن لا جواز سفر لكليهما. الآن، مثل زميلهما الثالث المخرج الوثائقي مصطفى آل أحمد، عادا إلى سجن إيفين سيئ السمعة في طهران.

اعتُقل بناهي عندما ذهب يوم الأحد، 10 تموز/يوليو، إلى مكتب المدعي العام للاستفسار عن مكان صديقيه وزميليه، وقد اعتقلتهما السلطات الإيرانية قبل يومين من اعتقاله، لمساندتهما تحركات احتجاجية شهدتها مناطق إيرانية على خلفية انهيار مبنى تسبب بمقتل 43 شخصاً في جنوبي غرب البلاد في أيار/مايو الماضي. يبدو كما لو كان مفتتحاً لأحد أفلامه التي أعلى فيه صوته السينمائي ضد الفساد والقمع وغياب العدالة.

(المخرج جعفر بناهي)

الاعتقال يأتي ضمن حملة قمع ضد شخصيات معارضة، وسط حالة توتّر متصاعد بين حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والغرب، على خلفية تعثّر مفاوضات الملف النووي وزيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، فضلاً بالطبع عن سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية لقطاعات واسعة من الشعب الإيراني. تزداد التهديدات والعقوبات والاعتقالات، وتتكاثر الاتهامات أيضاً.

في 11 يوليو/تموز، أفادت وكالة أنباء فارس الإيرانية باعتقال عدد من "مثيري الشغب" الذين زُعم أنهم تلقوا مساعدة وتمويل من مصادر أجنبية. وذكر التقرير، نقلاً عن "مصدر مطلع"، أن "المعتقلين تلقوا أموالاً من جهة مالية أجنبية مقابل إثارة أعمال شغب وانعدام الأمن في البلاد". منذ يوم الجمعة، 8 تموز/يوليو، اعتُقل ما لا يقل عن 11 شخصية عامة معروفة، من بينهم مصطفى تاج زاده، نائب وزير الداخلية السابق والمنتقد اللاذع للمرشد الأعلى علي خامنئي، وست نساء من حركة "أمهات من أجل العدالة"، اللواتي فقدن أبناءهن في الاحتجاجات التي عمّت البلاد في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وأصبحن ناشطات منذ ذلك الحين؛ بالإضافة إلى المخرجين الثلاثة.

منذ العام 2010، لم يُسمح لبناهي ورسول آف بالسفر، لكن أفلامهما سافرت إلى برلين وكانّ وسان سيباستيان ونيويورك، غالباً عبر طرق معجزة نمت حولها الأساطير (هل حقاً هُرّب فيلم بناهي "هذا ليس فيلماً" (2011) إلى مهرجان كانّ في شريحة USB داخل كعكة؟)، وقد حرصوا دائماً على إبقاء إيران وفنانيها وسينماها حاضرة في المحافل الدولية، رغم القمع والعنف والفساد والتعسف الذي يلاقيه الفنّ على أيدي سلطات تكرهه وتحاربه. في تلك الأفلام، ظهرت إيران بحلوها ومُرّها، كدولة يحاول مستضعفوها العيش بسلام إلى جوار مَن شوهّهم النظام ومَسَخَهم، فيما يمرر آخرون أيامهم في مقابل آخرين يسلمونهم إلى السكين أو يقومون بعملهم كجّلادين بالطبع. أظهر هؤلاء الفنانون في عملهم قبل كل شيء مدى حريتهم، او بالأحرى مدى حرصهم على ممارسة حريتهم. وهذا يجعلهم خطرين على أي نظام استبدادي، لا يقنع بالسلطة ولا يرضى بأقل من التدجين الكامل لأي روح حرّة تفكّر وتسأل و"توجع دماغه".

سحلية تزحف عبر رفّ كتب. كلبٌ يخطف الريموت كنترول ويضطجع على كرسي بذراعين أمام التلفزيون. شابّة إيرانية تشرح من موقعها داخل سيارة أجرة كيف يجب أن يبدو الفيلم الموالي للنظام. هذه مشاهد مضحكة نقابلها في أفلام جعفر بناهي، والتي تنبئ دائماً بظروف تصويرها السرّية -بمساعدة أصدقاء لا يُكشف عن أسمائهم- ومدى اقتراب خطر التعرُّض للسجن، كما يحدث الآن من جديد.

بناهي ورسول آف وغيرهما من فنانين إيرانيين "ملتزمين" اختاروا البقاء والعمل داخل بلدهم، لم يهنأوا بالأمان لفترة طويلة، لكنهما لا يستطيعا الانصياع لأوامر وشروط الاستبداد. أنتج بناهي عدداً قليلاً من الأفلام منذ بدء الحظر المفروض عليه قبل 12 عاماً: في شقته، في بيت شاطئي على بحر قزوين، في سيارة أجرة، وفي رحلة بالسيارة مع ممثلة مشهورة. كلها أفلام تدور حول قوة الخيال ولامحدوديته التي يمكنها تحويل مُربّع من شريط لاصق على سجادة إلى منزل له باب يفضي إلى الخارج. وهو متهم، من بين أمور أخرى، بـ"الدعاية ضد النظام"، كما هو حال رسول آف، الذي استمر هو الآخر في العمل. رغم ذلك، فأفلامهما ليست كذلك أبداً. ليست دعاية أو بروباغندا مجانية. ليست وسيلة للتلاعب بالعقول والآراء.

(المخرج محمد رسول آف)

ربما ترى السلطات، إذا نظرت إلى الصورة الكبيرة ولم تتصرّف بشكل تعسفي محض تحت وطأة العقلية الأمنية الصرفة (أكثر الوسائل إرهاباً ضد الفنّ)، أن هذا هو جرمهم الأكبر: لقد ظلّا مبدعين في عملهما، بالرغم من الإقامة الجبرية، يصوّران وينجزان -بشكل غير قانوني– أعمالاً توسّع حدود المحبس والمعزل، وتضيف إلى قيمة الفنّ السينمائي. فنّهما يتنفس استقلالية وعناداً وحرية، بينما يُفترض بهما أن ينزلقا رهينة التخويف والإرهاب والتدجين والوقوف في الصفّ. صناعة الأفلام ضرورة وجودية لهذين السينمائيين المناضلين، وهذا واضح في كل عمل من أعمالهما، وهذا هو السبب في أن أفلامهما ترسي نفسها في الذاكرة أسلّةً وأنصالاً.

لا امتيازات هنا، أو رفاهية، بل إعلان وجود ومقاومة. وهذا يُظهر جزءاً من حقيقة الإنسان باعتباره قادراً على السمو فوق نفسه وظروفه. مثلما هو دليل إضافي على كون إيران هي البلد السينمائي الأعظم والأكثر يأساً في العالم.

ثم ماذا بعد؟ ماذا سيحدث لهم الآن؟ ومن سيكون التالي؟ الموجة غير المسبوقة من الاعتقالات والإعدامات ضد جميع المقاومين والفنانين والكتاب من أواخر الثمانينيات والتسعينيات، يُستشهَد بها هنا وهناك كمرجع. هل هناك وسيلة لوقف أو دفع موجة القمع هذه؟ طالبت المهرجانات الدولية بالإفراج عن المخرجين الثلاثة، وأبدى الزملاء تضامنهم. من لديه التأثير، من لديه القوة لإحضار هؤلاء الفنانين إلى برّ الأمان، أو على الأقل لإخراجهم من السجن؟ تمتلئ السجون الإيرانية مرة أخرى بالسجناء السياسيين، من دون أن يظهر أحد في الغرب -الآمل في إنقاذ الاتفاق النووي- للاهتمام بهم. الآن، هم بحاجة إلى تضامن عالم السينما بأسره -الجمعيات والأكاديميات والمهرجانات– مثلما إلى تحركات دبلوماسية وسياسية، حتى يستمر فنّهم وشجاعتهم الأكبر من تصوّرنا في التألق في قلوبنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها