لندن، بغداد، بيروت، درب السعادة الذي يقود الكاتبة العراقية فاطمة المحسن في "الرحلة الناقصة" للبحث عن مدينة أين، التي سافر إليها الشاعر الراحل سركون بولص، في رحلة تشبه قصيدة شاعر الإسكندرية قسطنطين كفافي "المدينة". وتقف بيروت مثل فاصلة معترضة بين مدينتين، الأولى هي الوطن الأصلي العراق، والثانية هي الوطن البديل بريطانيا. إلا أن المدينة تبقى انتظاراً مجهولاً يلوح ثم يختفي، وتظل بيروت في مصاف المدن البحرية في انتظار ورحيل، تراها من صوب البحر عند هبوط الطائرة وفي صعودها.
تدور الكاتبة بين المدن الثلاث. ولأن "المدن كلها قبض ريح"، فإن المرء يعبرها في تجوال سريع مثل ساعي بريد أضاع العناوين، وفقد ذاكرته. في بغداد كل شيء يمضي مسرعاً، لا ثبات في الأماكن. مدينة تعمل في الصمت والضجيج، وتحفر أنفاقها "في وعورة أجسادنا، وفي وقوفنا بين الخطوط المتقاطعة لمتاهاتها"، بينما بيروت صغيرة، ويبقى اندماج الناس فيها أقل صعوبة من بغداد والقاهرة، في مخيالها دائما باريس التي استبطنت أساليب حياتها وحوّرتها ودورتها، كي تكونها بين بلدان الشرق العربي. وتحتل لندن في طريق السفر المطاف الأخير في رحلة ستكتمل أو تنقص يوماً وسنة وشهراً. وفي كل ذلك تبقى مغادرة الأماكن الأولى اقتلاعاً لا يدرك فداحته حتى الذين يعيشون تفاصيله.
في حديقة البيت اللندني يحضر الأصدقاء القريبون والبعيدون بقيادة فالح عبد الجبار، الزوج الذي كان يشعل النار في برد المدينة. ويتحلق حوله أصدقاء في أغلبهم من مرحلة جريدة "طريق الشعب" صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، فتحضر سير رفاق وأصدقاء في دفتر المأساة التي واجهها الحزب ومثقفوه، خصوصاً أولئك الذين ظلوا في بغداد، ودفعوا الثمن مثل الشاعر يوسف الصايغ الذي "يكتسي لديه النضال طابعاً كرنفالياً"، احتفاء الشهادة والشهداء أحد مظاهره. وقبل أن تغادر الكاتبة العراق هرباً من القمع، تعرج عليه متنكرة لتنصحه بضرورة مغادرة البلد، لأنه لا يحتمل اختباراً كالذي مر به في انقلاب البعث الأول العام 1963، لكنه كان قد تلقى أمراً حزبياً بالبقاء، لأن قيادة الحزب تريد أن تحوله "إلى كبش فداء"، هذا الحزب الذي نزف خيرة شبابه "وبقي القادة من دون نقصان".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها