الأحد 2022/05/08

آخر تحديث: 08:51 (بيروت)

بالوطنية السينمائية.. هل جهّز بوتين شعبه لغزو أوكرانيا؟

الأحد 2022/05/08
increase حجم الخط decrease
 

مع تحول معركة دونباس شرقي أوكرانيا إلى معركة استنزاف، فالأرجح أن ما سيفعله بوتين هو الانتظار والترقب حتى يوم التاسع من أيار/مايو، حين يحين موعد ذكرى احتفال روسيا بالنصر على ألمانيا النازية باستعراض عسكري في الميدان الأحمر. وقتها يمكن الدخول في مرحلة تالية لحربه العدوانية على جارته الصغيرة. عملية شاملة؟ تعبئة عامة؟ إذا حدث ذلك - وهذا ما يرجّحه الخبراء العسكريون والساسة الأميركيون - فإن الأفلام الروسية التي لا تُعدّ ولا تُحصى حول الحرب العالمية الثانية قد قامت مسبقاً بعمل تمهيدي مهمّ.

 

في التاسع من أيار/مايو، يحيي الروس ذكرى الانتصار على هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، أو "الحرب الوطنية العظمى"، وفقاً للتسمية الروسية. احتفال توليه الدولة الروسية أهمية كبيرة وتستفيد منه للحفاظ على هيبتها وتأكيدها. لكن في السينما الروسية يبدو أن كل يوم هو التاسع من أيار، وهذا هو المدى الفعلي لسيطرة الحرب العالمية الثانية على السينما الروسية.

تبذل الحكومة الروسية أيضاً كل ما في وسعها لإبقاء واستمرار جريان تدفق مستمر من المسلسلات والأفلام الملهمة والوطنية حول الحرب العالمية الثانية والحفاظ عليها. يعتبر مفهوم "الوطنية" رائداً في السياسة الثقافية. قدَّر الخبير الأميركي في الشؤون الروسية ستيفن نوريس أنه تم عرض فيلم حربي واحد على الأقل شهرياً في روسيا خلال السنوات الثماني الماضية. ما لا يقل عن 75 في المائة من هذه الأفلام موضوعها الأساسي هو الحرب العالمية الثانية. من بين الأفلام العشرة التي قدّمتها روسيا لنيل جوائز الأوسكار بين عامي 2010 و2020، سبعة منها كانت مرتبطة بالحرب العالمية الثانية.

هل أعدّت الدولة الروسية الرأي العام للعدوان في أوكرانيا بكل أفلام الحرب تلك؟ ربما يكون هذا إفراطاً في التبسيط. لكن بالطبع هناك علاقة. بالنسبة للروس ووفقاً لروايتهم، فالحرب العالمية الثانية هي الحرب الجيّدة، حيث كان الروس في البداية ضحية لهجوم هتلر الجبان وغير المتوقع، ثم صمدوا ببطولة وشجاعة واحتفلوا في النهاية بانتصار مجيد. دعاة السلام ومن نحا نحوهم لن يصبحوا ذوي شأن عظيم بعد مشاهدة معظم أفلام الحرب الروسية تلك، فضلاً عن خفوت أطروحاتهم ودفوعهم السلمية بمواجهة خيال سينمائي يلهب المشاعر الحماسية ويبعث الحنين لأمجاد ماضية.

معاناة السكان خلال الحرب تتقلّص في صور ومشاهد الأفلام. لم يكن هناك انقسام بين الروس. الدعم الأميركي الواسع الذي حصل عليه ستالين خلال سنوات الحرب من خلال برنامج "إعارة وتأجير الأسلحة" يختفي من الصورة. لقد فعل الروس كل شيء بمفردهم.

 

أجندة أيديولوجية

من المؤكد أن بوتين ليس أول زعيم روسي يستخدم ذكرى الحرب العالمية الثانية لتعزيز شرعيته السياسية والأيديولوجية. بدأت العبادة الرسمية لإحياء ذكرى الحرب العالمية الثانية في الاتحاد السوفياتي تحت قيادة نيكيتا خروتشوف (حكم من 1953 إلى 1964). في عهد ليونيد بريجنيف (رئيس الاتحاد السوفياتي بين عامي 1964 و1982)، هيمنت هذه العبادة الإحيائية لدرجة أن احتفالات الحرب العالمية الثانية تجاوزت ذكرى ثورة أكتوبر (الثورة البلشفية).

لكن شيئاً ما تغيّر على مرّ السنين. في الماضي، عملت الرسالة الأيديولوجية على تمجيد الحزب الشيوعي والتضامن الأخوي للشعوب السوفياتية. اليوم، انحصرت الدعاية في خدمة شرف ومجد الروس وحبّهم للوطن. مَن يأتي من جمهورية سوفياتية سابقة أخرى يحصل على الأكثر على دور مساند متواضع في هذه الملحمة الروسية الخالصة.

في فترة ولاية بوتين الأولى كرئيس، كان النقد والحوار الحرّ في روسيا ممكناً إلى حد ما. تطرَّق المسلسل التلفزيوني الشهير "كتيبة العقاب" (2004، نيكولاي دوستال) إلى موضوع حسّاس: الكتائب العقابية للسجناء السياسيين في الجيش الأحمر، الذين أُرسلوا إلى الحرب كشكل من أشكال العقاب أو الانضباط. هذه الحرية النسبية تبخَّرت خطوة بخطوة بعد عودة بوتين كرئيس في عام 2012، بعد فترته كرئيس للوزراء في عهد ذراعه الأيمن دميتري ميدفيديف. كان لوزير الثقافة السابق فلاديمير ميدينسكي، كاتم أسرار بوتين وكبير أيديولوجييه، دور فعّال في تأجيج ما يسمّى بـ "الوطنية السينمائية". حتى أن "التشهير" بالدور البطولي الروسي في الحرب العالمية الثانية يُعاقب عليه حالياً بالسجن.

على سبيل المثال، في العقد الماضي، عُرضت على الروس سلسلة لا تنتهي من الأفلام ضخمة الإنتاج ذات الصلة بالحرب، حاول عبرها الروس تقديم نسختهم من أفلام "البلوكباستر" الأميركية، غير أن النجاح لم يحالفها جميعا في شباك التذاكر كما في خيال المشاهدين. في البداية هناك أفلام عن المعارك الشهيرة، مثل الفيلم الناجح "Panfilov's 28" (2016، كيم دروزنين وأندريه شالوبا) المستند إلى أسطورة روسية تعود إلى نهاية العام 1941 حول مجموعة من 28 جندياً من الجيش الأحمر المتمركز بالقرب من موسكو تمكنت من إيقاف 54 دبابة ألمانية لبضعة أيام. عندما أوضح المؤرخ سيرجي ميرونينكو بالوثائق أن القصة بأكملها مبنية على صناعة الأساطير، تدارك الوزير ميدينسكي الأمر، وعلّق بأن "أي شخص يشكك في مثل هذه الأسطورة المقدسة هو لقيط قذر".

مثل هذا التصحيح التاريخي من طرف المتخصصّين وحشر أنوفهم في مسائل الدعاية الوطنية ورواية الملاحم العسكرية، يمثّل ضربة مؤلمة لميدينسكي، لأنه يحبّ الإشارة إلى أن أفلام الحرب الروسية تستند دائماً إلى الحقيقة ولا شيء سواها. أفلام هوليوود العسكرية البطولية، مثل "إنقاذ المجنّد ريان" (1998، ستيفن سبيلبيرغ)، تدور غالباً حول جنود متخيّلين يقومون بأفعال مجيدة ضمن أحداث محبوكة لإثارة الأدرينالين ومشاعر التعاطف والتقدير. أفلام الحرب الروسية، على العكس، لا تحتاج إلى ذلك، فالروس كانوا بطوليين في الواقع.

حظي ميدينسكي بمزيد من الحظّ لدى ظهور فيلم "معركة سيفاستوبول" (2015، سيرجي موكريتسك)، الذي دعمته وزارته بسخاء كبير، والمستند إلى وقائع صحيحة إلى حد كبير عن القناصة الأوكرانية الشهيرة ليودميلا بافليشنكو الملقّبة بسيدة الموت. ووفقاً لإحصاءات رسمية، فقد تمكنت من قتل ما يصل إلى 309 جنود من العدو. قال ميدينسكي: "كل صورة حقيقية، كل شخصية حقيقية".

 

أفلام لكل شيء

من ناحية أخرى، يحضر الإلغاز والميثيولوجيا الخالصين في فيلم "النمر الأبيض" (2012، كارين شاهنازاروف). هذا الفيلم يدور حول دبابة بيضاء غامضة لا تُقهر من الفيرماخت (القوات المسلحة لألمانيا النازية). لكن الدبابة الأسطورية تخسر في النهاية بفضل القدرات النفسية لجندي روسي فاقد للذاكرة، يقدّمه الفيلم كـ"هامس دبابات"، يروّضها بما يشبه الهمهمات والتعاويذ. نهج أكثر كلاسيكية يحضر في أفلام حديثة حول حصار المدن الروسية خلال الحرب العالمية الثانية، مثل "ستالينغراد" (2013، فيودور بوندارشوك) و"إنقاذ لينينغراد" (2019، أليكسي كولزوف).

في السنوات القليلة الماضية، حقق فيلم T-34"" (2019، أليكسي سيدوروف)، بقصّته حول أسرى حرب روس تمكّنوا من الهروب من معسكر اعتقال ألماني بواسطة دبابة روسية، نجاحاً كبيراً في دور السينما. بالإضافة إلى الأفلام التي تتحدث عن معارك الدبابات، هناك أيضاً أفلام عن الأسلحة نفسها. إذ يدور فيلم "دبابات ستالين" (2018، كيم دروزنين) حول تطوير الدبابة السوفيتية الشهيرة T-34. فيما يركّز فيلم "AK-47" (2020، كونستانتين بيسلوف) على اختراع ميخائيل كلاشنيكوف للمدفع الرشّاش الشهير خلال الحرب العالمية الثانية.

بالنظر إلى قائمة الأفلام الحربية و"الوطنية" التي قدّمها الروس لسنوات، عطفاً على القبضة الأمنية لنظام بوتين؛ يبدو الافتقار حالياً إلى مقاومة شعبية واسعة النطاق للحرب في أوكرانيا أقل إثارة للحيرة. كما لا يفوّت بوتين أي فرصة لربط الحرب الحالية بالحرب العالمية الثانية، واللعب على وتر إحياء الشعور القومي والهوية السوفياتية في مواجهة عدو قادم من الغرب. لذا من المحتمل ألا يتأخّر ظهور الأفلام السينمائية البطولية حول "العمليات العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، لتستمر الدعاية الروسية في تغذية آلة الحرب ومراكمة الأمجاد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها