السبت 2022/05/07

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

مخطوطات سيلين المستعادة..من عدائه للسامية

السبت 2022/05/07
increase حجم الخط decrease
ذات يوم، تلقى الصحافي في "ليبراسيون" جان-بيار تيبودا اتصالاً هاتفياً من شخص ما، طلب لقاءه لأن في حوذته مخطوطات سيلين المفقودة. ذهب تيبودا لمقابلة هذا الشخص المجهول، الذي سرعان ما اعطاه عدداً من الاكياس، التي احتوت تلك المخطوطات. احتفظ تيبودا بها لسنوات قبل أن يسلمها للشرطة، التي، ومن جهتها، وضعتها في عهدة اولياء حق سيلين، والمكلفين بحفظه. 


اللافت في حكاية تيبودا هذه، التي انتشرت اثر صدور رواية جديدة لسيلين، وهي "حرب" (غاليمار)، هو عنصر اساسي فيها: سيلين نفسه كان قد اعتقد أن هذه المخطوطات ليست موجودة. ففي حزيران 1944، ومع بدء تحرير فرنسا من الاحتلال، قرر سيلين الهرب من باريس خوفاً من توقيفه، ومثلما هو معروف، كان، وبالتوازي مع معاداته للسامية، مقرباً من حكومة "ڤيشي" مثلما كان من المتعاونين مع النازيين. ترك خلفه الكثير من الاوراق، التي كتب عليها روايات، ومقالات، ومنشورات، فلم يأخذها معه بسبب وزنها. بعد سنوات، عاد سيلين إلى باريس، لكنه، لم يكترث بالتفتيش عن هذه الاوراق، بل ظنّ انها أُحرقَت أو تُلفت. استكمل سيلين عيشه على هذا الاعتقاد إلى أن مات في العام 1961. الا أن الاوراق، وخلال كل هذا، كانت موجودة في مكان ما، وقد تحوّلت مكعبات ورقية متكدسة فوق بعضها البعض من دون أي تمحيص أو تفتيش فيها، وهذا إلى أن وصلتْ هذه المخطوطات إلى يد تيبودا. وقد صرف من عمره نهارات وليالٍ من أجل قراءتها لتحديد الناقص منها والمبهم فيها والمكرر ضمنها. غدت هذه الأوراق - المخطوطات هاجس تيبودا، أو شاغل خاطره، إلى درجة أنه يروي في شهادة من شهاداته أنه كان، وفي بعض الاوقات، يخاف أن يحترق منزله وتضيع تلك الأوراق منه.


ففي هذا السياق، يمكن القول إن مدقق المخطوطات صارت صاحبها اكثر من كاتبها نفسه، الذي لم يكن يدرك أنها لا تزال على قيد الحياة. بالتالي، هي وصلت إلى مدققها قبل أن تختاره بدلا من كاتبه، أو بدلا من كونها بلا أي كاتب على وجه الدقّة.

لقد بقيت هذه المخطوطات مجرّد نصوص لا أحد يقرأها ولا أحد ينشرها، أي كانت نصوص معلقة بالكامل. وتعليقها هذا لا يرتبط بكون كاتبها قد اعتقد بموتها فحسب، بل، وأيضاً، بكون ذاك الشخص الذي احتفظ بها قد قرر طوال كل وقت وضعه لها في حوذته ألا يخبر عائلة سيلين عنها في أثر معاداته السامية. فسيلين كان كارهاً لليهود، وكرهه هذا عبّر عنه بأفكار ومقولات تافهة للغاية بالتأكيد، غير أنه، بالإضافة إلى ذلك، هو حض على الفتك والحرق والابادة في اثناء اجتماعاته مع بعض النازيين. ما حمل الشخص إياه على رفض أي شكل من اشكال  التواصل مع المحيط الاجتماعي لسيلين، أي مع عائلته والمقربين منه.

والمخطوطات، وبوضعها البعيد من هذا المحيط، تبدو كأنها انقاذ لها منه، وقبل هذا، يبدو الاقدام على اخفائها عن كاتبها وعائلته معاقبة لهما، والقول إنهما لا يستحقانها. كما لو ان هذه المخطوطات تقدّم إجابة من الأجوبة المتعددة على تلك الإشكالية المتعلقة بسيلين: كيف يجري تقدير كتابته في حين أنه معادٍ للسامية؟ المخطوطات، والاحتفاظ بها، ثم ايصالها السري إلى تيبودا، اجابت بكون ذلك قد يحصل عبر فصل كتابة سيلين عن سيلين ذاته، بجعله من دونها، بتجريده منها لعقود وعقود، لكي تعيش بلا سطوة اسمه عليها، ولكي تبقى في الظل، في تدقيقها وتمحيصها. قد يكون ذلك ممكنا، اجابت المخطوطات، ولكنها، وحين عادت إلى أولياء حق سيلين، بينت أن ذلك عويصاً للغاية. كما لو أنه كان من الافضل أن تبقى في أكياسها أو تحت نظارات تيبودا إلى أن تتوارى مرة أخرى! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها