الأربعاء 2022/05/04

آخر تحديث: 10:22 (بيروت)

في كَون الشعر ليس إمبريالياً

الأربعاء 2022/05/04
في كَون الشعر ليس إمبريالياً
ليليان جيرودون
increase حجم الخط decrease
تصلح قراءة المجموعة الشعرية الأخيرة ليليان جيرودون لإعادة تفعيل استفهام معين، يتعلق بالشعر، ويدور حول كتابته. إذ إن تلك المجموعة تطرحه بطريقة غير مباشرة، أي بأسلوبها، ما يدفع إلى استخلاصه منها: ما هي كتابة الشعر؟ بالطبع، يمكن نقد هذا الاستفهام بسرعة، بحيث ان التساؤل الذي ينطوي عليه عن ماهية الشعر قد يجر إلى جوهرته، او إلى تحديده بمعنى جامد ونهائي. لكن، إن كان النقد سريعاً، فالرد عليه قد يكون أسرع منه، والتساؤل عما هي كتابة الشعر لا يرتبط بماهيته، إنما فعلياً بطرق وضعه، أو بالأحرى بمحركاته، التي يصح القول، ومن نافله، أنها متعدّدة، وبإزاء هذا يصبح التعليق على واحد منها ضرورياً، وهو النصي بينها. وذلك الاستفهام يمكن طرحه بغيره: كيف يتحرك الشعر نصياً؟

أريد هنا أن أستند قليلاً إلى مجموعة جيرودون من أجل الإشارة إلى كونها، وفي مقاطع منها، أو بالأحرى في لحظات منها -طالما أن الشعر وقت أيضا- تبدو أنها ترمي إلى أن تكون مفتوحة. صفتها هذه لا ترتبط بتلك العبارة الذائعة التي توسم نص ما بكونه "مفتوحاً للتأويل"، لا، إنما ترتبط بديناميكية مضمونها، إذ يبدو مشرعاً على كل أنواع النصوص، أحصي بعضها: بالإضافة إلى القصيدة، هناك السرد القصصي والاوتوبيوغرافي، وثمة المذكرات، وهناك التوثيق، وثمة التبليغ، وهناك الرسالة، وثمة التفعيلة الخ. لا داعي في هذه الناحية إلى القول أن تعدّد هذه الأنواع يجعل من موضوعاتها موضوعات كثيرة، إذ أنها تتناولها الواحدة تلو الأخرى، وتنتقل بينها بيُسر. جيرودون تفعل ذلك -وهذا وجه من الوجوه المهمة لشعريتها- من دون هجس في ربطها، بل إن ترابط الموضوعات يحصل من تلقائه، وبلا تقصده.

اختم الإستناد إلى جيرودون بالقول أن الشعر، في هذا السياق، يتحرّك نصياً ليكون رحباً، لكي يشتمل على كل الأنواع، وعلى كل الموضوعات. ما يعني أن ما يحركه هو بغية ان يتسع لغيره، أن يكون أرضاً لمزاولته. بالتأكيد، يمكن وصف هذا المحرك أنه إمبريالي، بمعنى أنه يمكن الكلام عن أمبريالية الشعر، الذي يريد أن يضع يده على كل الأنواع والموضوعات، أن يجعل من نصه نصاً شاملاً، يحتوي على كل شيء، ولا يترّك أي شيء خارجه. إلا أن الامبريالية هذه تستلزم ان يكون الشعر على إرادة أن يطبع كل نوع وكل موضوعة على نحوه، ليصير النوع شعراً والموضوعة منه.

لكن، ما يتحرك الشعر عليه ليس من قبيل تعميم لنفسه على غيره، إنما هو فتح نصه أمامه من أجل أن يحضر فيه، بمعنى أن الشعر، وبنصه هذا، بمثابة فضاء يقوم بإمكان أن يولد فيه كل نوع وكل موضوعة. هذا عكس الإمبريالية على ما أظن: بدلاً من طغيان الشعر على غيره، يكون أرضاً لإمكان ولادته. هذا لا يعني أن أي نوع نصي هو غائب قبل ولادته في الشعر، بل إنه قد يكون حاضراً بالتأكيد بمعزل عنه، لكنه، حين يحضر بالانطلاق منه، من أرضه، فهو يتجدّد، ويصير مختلفاً عما كان عليه. فالشعر يعيد له قدرته، وبعبارة أخرى، هو كناية عن أرض يكون فيه، ليس نوعاً متوقفاً على طريقة تعبيرية بعينها، بل هو نوع متحرك من طريقته هذه إلى سواها بعد أن يخلقها. الشعر، بهذا المعنى، هو إمكان أي نص ومجدده.

ولأن الشعر كذلك، فيمكن، في هذا المطاف، الحديث عن كونه، وباستمرار، محاولة لما يمكن تسمتيه "كتابة مطلقة"، اي الكتابة التي تريد أن تطاول أي شيء. هو محاولة بمعنيين ليسا متناقضين: محاولة تحقيقها، لكنه، أيضاً، محاولة اثبات أنها ليست متحققة. فأهم ما في أي محاولة انها ترمي إلى تحقيق موضوع ما، وفي الوقت نفسه، ترمي إلى اثبات أن تحقيقه هذا لا يمكن أن يحصل. آرثور رامبو، كان يريد ذات يوم أن يضع "الكتاب" مع آل التعريف، الذي يكتب فيه العيش كله. حاول ذلك، فوضع شعره، الذي استوى على كونه مسعى الى تحقيق ذلك "الكتاب"، وبالفعل نفسه، التأكيد على كونه، ومهما كان السعي حياله قوياً، يبقى بعيد المنال. بهذا الشكل، الشعر هو محاولة الاقتراب من بعيد المنال هذا من أجل التثبت من كونه كذلك، ومن أجل ابقائه كذلك أيضاً. فأن تجري كتابة ذلك "الكتاب"، هذا يعني أن تصل الكتابة إلى حدها، فتموت عنده. لكن، ألا يبقى الشعر حياً بعد أن تموت الكتابة؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها