الثلاثاء 2022/05/03

آخر تحديث: 11:50 (بيروت)

أندريا أرنولد لـ"المدن": الحيوانات تتألّم.. وتستمتع أيضاً

الثلاثاء 2022/05/03
increase حجم الخط decrease
كيف تبدو الحياة اليومية لبقرة حلوب؟ يطلعنا الفيلم الوثائقي "بقرة" للمخرجة أندريا أرنولد على محاولة لإجابة السؤال السابق.

لوما، بقرة في مزرعة بريطانية، أنجبت لتوّها، وما زال الحبل السرّي متدلياً بين ساقيها. لكنها تذهب، من جديد، إلى آلة الحلب. في هذه الأثناء، وبعيداً من أنظار لوما، يطعم المُزارع عجلها الصغير من زجاجة حليب. مثل "غوندا"، الفيلم الوثائقي للروسي فيكتور كوساكوفسكي عن الخنازير، يقدّم "بقرة" بياناً لافتاً من دون الإدلاء بتصريحات زاعقة. فقط عبر تسجيل يوميات وأحداث حياة البقرة لوما: سلسلة من التلقيحات، والولادات، والحلب، وما إلى ذلك. في بعض الأحيان، تقترب الكاميرا جداً بحيث يبدو أن لوما ستهرس مشغّل الكاميرا تحت قدميها.

لكن على عكس فيلم "غوندا"، حيث تصوَّر الحيوانات وكأنها تعيش بمفردها تقريباً، فالبقرة في عمل أرنولد دائماً جزء من الاقتصاد الرأسمالي: آلة ولادة وحَلب ضمن خطّ إنتاج يجب أن يستمر في العمل بكفاءة وفعالية. يظهر البشر في الخلفية فقط، كشخصيات مجهّلة أو يدخلون إلى الصورة بأجزاء جسدهم ذات الصلة: أيدي تستخدم معدات الحَلب وتقود الأبقار، أذرع بقفازات بلاستيكية تمتد إلى أدبار البقر، وأرجل في أحذية مطاطية تدوس في روث البقر. هم، أيضاً، عناصر لتلك الآلات الصناعية الضخمة، جزء من نظام قاسٍ وشرير وليس بالضرورة أشخاص قاسيين وأشرار.

بأسلوب نشط ومغامر يوظّف الكاميرا أداةً راديكالية للتعاطف، يقدّم الفيلم نفسه كبورتريه حميمي، إذا جاز التعبير، لموضوعاته. يمكن عبره ومن خلال عيون بطلته قراءة رؤى عن الأمومة والجنس والموت والرأسمالية. وفي قلبه تنمو نظرة إنسانية رحيمة لا تنبثق من تعليقات أو نصوص أو خطب أو إحصائيات، وإنما من الملاحظة البسيطة. كما أنه ليس في نيّة أرنولد مهاجمة المزارعين أو مَن يعتنون بالحيوانات. فقط، عبر وضع الكاميرا في موقع "الضحية"، تنبثق تلك الأنسنة من خلال عملية بسيطة لكشف وتطابق الهوية ينتج من معاينة المتفرج للحظات ألم ومعاناة واضحين.

هنا، ليس الإنسان الفرد هو الشرير، بل النظام، تلك الصناعة التي تجرّد البشر من إنسانيتهم، وتشيّئ الحيوانات. تتقدم أرنولد بحقيقة أن هذا "الشيء" الموجَّه عبر أخدود/روتين تخديري منزوعاً من الشعور أو الاستجابة، هو أيضاً كائن حي؛ تلعق بلطف عجلها المولود حديثاً، ويطلب وصالها فحلٌ راغب، وتستمتع بغروب الشمس من مرعاها. كائن يمكنه النظر إليك من خلال عدسة الكاميرا، والتواصل معك. عينا لومى من الصعب نسيانهما، لكن في فيلمٍ جذري ومباشر كهذا، لا تحتاج أرنولد إلى استراتيجية لأنسنة بطلتها، وإنما تتيح لنا تصوّر الحيوان على حقيقته: كائن حسّاس.

بلا سرد أو مقابلات، ولا حتى باستخدام أسلوب المراقبة البعيدة المعتمد تقريباً في الأفلام الوثائقية البيئية، تدخل كاميرا أرنولد حرفياً بين الأبقار، تلاصقهم وتتابعهم، كما لو كان منظور المخرجة قادم من بقرة أخرى في المجموعة. تتشابك المرئيات مع شريط الصوت، كما فعلت أرنولد سابقاً في فيلميها "حوض السمك" "وعسل أميركي"، بطريقة تجمع بين العفوية الذكية والحمولات العاطفية. رصين وعاطفي ومكثّف في آن، تنجز أرنولد فيلمها الوثائقي الأول، داعيةً المتفرج للتورّط في مشاغلها مثلما في الحياة الصعبة لحيوانات المزرعة، فيما تثير تساؤلات حول وعي الحيوان وإمكانية بناء التعاطف مع كائنات أخرى عبر النظر المجرّد.

بمناسبة بدء العروض العالمية لـ"بقرة"، التقت "المدن" المخرجة للحديث عن فيلمها وطريقتها في إنجازه...


* اشتهرتِ بأفلامك الروائية مثل "حوض السمك" و"مرتفعات ويذرينغ" و"عسل أميركي"، لماذا تنجزين فيلماً وثائقياً الآن؟

- تعود الفكرة إلى زمن طويل، سبع سنوات على الأقل. أردت أن أفعل شيئاً بشأن الزراعة وتربية الحيوانات، لكنني لم أكن أعرف كيف سيبدو ذلك. ثم خطرت لي فكرة مراقبة كائن حي، على غرار ما أفعله في أفلامي الروائية. لكن لم أستطع معرفة ما إذا كان بإمكان المرء بعد ذلك التعرُّف على هذا الكائن أيضاً، وما إذا كان الأمر له أي معنى على الإطلاق، وما إذا كان على المرء أن يخشى هذا الكائن. أعرف غرائز وسلوكيات الحيوانات. لهذا السبب كنت متأكدة من أن الحيوان الذي أردت متابعته يملك شخصية. لا يهم حقاً نوع الفيلم الذي سينتج عن تلك العملية، قصير أو طويل، وثائقي أو درامي. أردت فقط أن أجرّب الأمر. لم يكن من الضروري أن يتناسب مع تصنيف معيّن.

* وصفتِ فيلمك "بقرة" بأنه أكثر من فيلم وثائقي. ما قصدك بذلك؟

- في العرض العالمي الأول في "كان"، قلت بشكل عَرَضي نسبياً أنني لا أعتقد أن "بقرة" فيلم وثائقي. بالنظر إلى الماضي، أعتقد أن هذا كان سؤالاً طرحته على نفسي. لا أعرف حقاً ماذا أسمّي ما كنت أفعله. كنت أتابع بقرة تدعى لوما، أراقبها وأسجّل ما يحدث بطريقة واقعية للغاية. لذلك فهو فيلم وثائقي بهذا المعنى. لكن "بقرة"، بطريقة ما، يتجاوز هذا التوصيف، وفي بعض الأحيان يكون لدينا طرق محدودة لتسمية الأشياء. وربما لا يتعيّن علينا تصنيف كل شيء. أنا أعتبر هذا الفيلم "فعل حُبّ".

* صوّرتِ على مدى أربع سنوات، مع توقفات. كيف بدا ذلك بالنسبة لتجاربك السابقة؟

- في البداية، خطرت لي فكرة صنع شيء يتعلق بالثروة الحيوانية، ولم أكن أعرف كيف أفعل ذلك. هذه هي طريقتي في صناعة الأفلام: أطوِّر واكتشف الأشياء بمرور الوقت فقط، إنها عملية متسلسلة. كانت الفكرة الأساسية هذه المرة هي: إذا لاحظت حيواناً لفترة كافية، فهل يمكنني إظهار شخصيته وحساسيته، وحياته الداخلية؟ هل يمكنني إخراج غير المرئي؟

* ما الذي أثار اهتمامك في هذا الموضوع؟

- في ذلك الوقت كنت أقرأ الشاعر الأيرلندي جون أودونوهيو، الذي كتب عن الجمال غير المرئي في داخلنا، والعقل والعواطف والإرادة. وأردت معرفة ما إذا كان بإمكاني رؤية ذلك في الحيوانات، في هذه الحالة كانت بقرة حلوب. لذا عندما بدأنا التصوير، أدركت بسرعة أن الكاميرا يجب أن تركز بشكل أساسي على الرأس والعينين. لقد كانت تجربة رائعة: بمجرد أن تبدأ في مشاهدة عيني حيوان، تبدأ في التساؤل عما يشغل تفكيره وما يشعر به. تبدأ في إدراك الحيوانات بشكل مختلف.

* عادة ما تكون الكاميرا قريبة جداً من لوما، تتبعها في كل مكان. كيف تمّ ذلك من الناحية العملية البحتة؟

- بطاقم صغير جداً، مع الكثير من الصبر والتنازلات. رغبت في البداية في التصوير على شريط فيلم وقمنا بالفعل بتجربته، لكن سرعان ما اضطررت للتخلي عن الفكرة، إذ تطلّب الأمر كاميرا رقمية صغيرة في العديد من المواقف. نادراً ما استخدمنا أي ضوء صناعي، فقط في بعض الأحيان كان علينا المساعدة قليلاً لنكون قادرين على رؤية شيء ما في الحقول ليلاً، على سبيل المثال. لذلك أمسكت الأنوار في يدي فيما تدور وتطنّ الحشرات الليلية حول رأسي، ويمكنك أن ترى في الفيلم كيف تتحرّك الإضاءة، وهذا لأنني كنت أحاول إخافتها وإبعادها.

* ما من تعليق صوتي في الفيلم، وبالتالي فشريط الصوت زاخر جداً ومدهش..

- حاولت مع مصمم الصوت الخاص بي نيكولاس بيكر تسجيل أصوات لوما بطريقة تبدو ثلاثية الأبعاد، كما لو كنتَ في منتصفها. الأبقار حيوانات كبيرة جداً والأصوات التي تصدرها، مثل الشخير والصراخ، حتى أن تنفسها يبدو ضخماً، ستشعر حقاً بحجمها عندما تسمعها. في الوقت نفسه، يمكنك أيضاً الحصول على كل الأشياء الصغيرة التي يصعب حقاً التقاطها، مثل ذلك الصوت الصغير المتأفف حين تكون سعيدة مع عجلها الصغير. أنا أنشد الطمال في هذا الصدد، حتى في أفلامي الروائية، أريد تسجيل كل صوت في الموقع. إذا أضفته لاحقاً في الاستوديو، فإنه يبدو عقيماً دائماً. أتفق مع (روبير) بريسون: الحياة لا تُضاهى. لا يمكنك استبدال لحظة بأخرى.

* كيف وجدتِ بطلتك لوما ومن ثمّ المزرعة؟

- أولاً، بحثنا حول منطقة إسيكس، لأنني أردت مكاناً ليس بعيداً جداً، ولكنه يذكّرنا أيضاً بالناس، بالقطارات والسيارات. وجدنا أخيراً ما كنا نبحث عنه في كِنت، حيث قررنا إنشاء مزرعة متوسطة الحجم. ليست مزرعة صغيرة لطيفة، ولا مزرعة صناعية ضخمة للألبان، ولكنها مزرعة عائلية يوصَّل حليبها إلى محلات السوبر ماركت في المنطقة. عندما شرحنا ما سنفعله، كان الناس على الفور منفتحين للغاية ومتعاونين. ذكروا لوما وقالوا إنها مفعمة بالحيوية. أدّى ذلك على الفور إلى جذب انتباهي. إذا كنت أرغب في استكشاف الحياة الداخلية وإرادة حيوان ما، فإن حالته المزاجية يجب أخذها في الاعتبار، فكّرت حينها. هذا يزيد من فرصتك لرؤية شخصيتهم.

* لماذا تعتقدين أن الحيوانات لديها وعي؟

- لقد كانت لدي علاقات مع الحيوانات طوال حياتي، وأعتقد أنه يمكنك رؤية شخصية ومشاعر الحيوان. لكن بالطبع هناك آراء أخرى، ينكر الكثيرون على حيوانات المزرعة امتلاكهم أي شيء يشبه الوعي. من الأنسب لنا أن نفكر بهذه الطريقة الأخيرة، أن نكون قادرين على استخدامها بالطريقة التي نستخدمها دون الشعور بالذنب. أنا أيضاً لم أكن متأكدة مما يمكن أن نجعله مرئياً. في وقت لاحق فقط سمعت أن البقرة التي تحمل اسماً تعطي ما يصل إلى 500 لتراً إضافياً من الحليب سنوياً. مثير للاهتمام، أليس كذلك؟ إذا كان لها اسم، فربما يعني ذلك أنك تتحدث إليها، وكلما زاد تعاطفك معها، زاد الحليب الذي تقدّمه. أنا لست عالمة، لكنني أعتقد أن كل الكائنات الحيّة يمكنها الشعور بلُطف أو قسوة كائن حي آخر.

* للحيوانات حضور خاص في أفلامك، لماذا؟

- الحيوانات والطبيعة موجودة دائماً في كتاباتي، فهي طريقة للتعبير عن نفسي. كانت طفولتي حرّة للغاية، وكانت والدتي تبلغ من العمر 16 عاماً وأبي 18 عندما وُلدت. خرجت إلى  الشارع في وقت مبكر جداً، في سن الثالثة. المنطقة التي عشنا فيها كانت تشبه المستوطنة، ولكن كان هناك الكثير من البرية حولها. لا شيء رومانسياً، الأمر مثل أرض استخدمت ثم هُجرت فأصبحت بريّة. شعرت براحة شديدة هناك وتلك البيئة شكّلتني. هذه النشأة تشكّل جانباً كبيراً من منظوري الوجداني.

* بهذا الفيلم، هل حققتِ هدفك في تظهير الحياة الداخلية للوما؟

- أعتقد أنه يمكنك رؤية شخصيتها وجمالها الجامح غير المرئي الذي تحدثت عنه سابقاً. حتى أنني أعتقد أنها شعرت في النهاية بكونها مرئية. كانت على علم بالكاميرا وشعرتْ أننا نراها. إن إدراك وعي كائن حي هو تجربة مكثَّفة للغاية. فقط ما تفكر فيه لوما في تلك اللحظة، حين تنظر إلى الكاميرا، يبقى لغزاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها