الإثنين 2022/05/02

آخر تحديث: 10:53 (بيروت)

"ماكيت القاهرة" لطارق إمام.. روايات في رواية

الإثنين 2022/05/02
"ماكيت القاهرة" لطارق إمام.. روايات في رواية
طارق إمام
increase حجم الخط decrease
"ماكيت القاهرة" رواية الكاتب المصري طارق إمام الصادرة عن "دار المتوسط"، واحدة من ست روايات صعدت إلى اللائحة القصيرة في سباق جائزة البوكر للرواية العربية، التي يتم الإعلان عنها عادة في معرض أبوظبي للكتاب خلال الأسبوع الأخير من شهر أيار. وهناك من يرشحها للفوز بالمركز الأول، وهذا أمر يصعب الخوض فيه قبل أوانه، ويحتاج إلى دراسة مقارنة تنصف الرواية وغيرها من الأعمال التي شاركت في مسابقة هذا العام، لا سيما أن هناك انتقادات موجهة للجنة التحكيم بسبب اسقاط روايات من لائحة الـ16، ومنها ثلاث روايات كانت تستحق الصعود إلى اللائحة القصيرة التي تضم ست روايات، وهي "أين اسمي؟" ديمة الشكر، "المئذنة البيضاء" يعرب عيسى، و"البحث عن عازار" نزار أغري.

"ماكيت القاهرة" رواية متينة على مستوى المبنى، وحافلة بالمضامين التي تحيل إلى زمننا الراهن بما يحمله من آمال وانكسارات، وتقع القاهرة وسط هذا العالم المتحرك. مكتوبة بلغة خاصة غير معهودة في الأعمال الأخرى، يغلب عليها طابع التجريب والعلاقة الحرة المفتوحة مع اللغة، والتي تقود إلى سبك شعري أحياناً بنكهة سوريالية، لكنها لا تخلو من عيوب كثيرة، منها الغموض من أجل الغموض، والحشو اللغوي، الذي يصيب القارئ بالملل في مواقع كثيرة. ولو أن العمل خضع إلى عملية تحرير تخلصه من الزوائد، كان يمكن له أن يصبح أكثر رشاقة وقوة وألفة مع القارئ.

تنهض الرواية على ثلاث شخصيات أساسية تحضر منذ بداية العمل، ويرسم الكاتب ملامحها العامة في الفصل الأول المعنون بـ"طبق الأصل". يجمع بينها أنها تعمل بالفن المستقل، وتسافر في رحلة طويلة تؤرخ لمدينة القاهرة بأربعة أزمنة 2011، 2020، 2045، وزمن غير محدد في مستقبل بعيد. ولكل من هذه الشخصيات روايته الخاصة، إلى حد أننا نجد أنفسنا في ختام العمل أمام أكثر من رواية، ومن بينها ثلاث روايات متوازية، كل منها له عالمه الخاص الذي يدور في فضاء القاهرة الواسع الضارب في التاريخي والراهن، وبذلك تعيش كل منها جملة من الأحلام والانكسارات والكوابيس والفشل والتناقضات بين قوانين الحياة والفن، وينقلها التخييل المفتوح بين حالات وتجليات سحرية ومتاهات. وتتقاطع مصائر الشخصيات عند مقابلة "المسز" في "غاليري شغل كايرو" للفنون، وهو عبارة عن مشروع فنّي يهدف لتشييد واستعادة شكل القاهرة العاصمة السّابقة قبل 25 عاماً، ولذلك تعلن "المؤسسة الفنية المستقلة لفنون الهامش"، عن منحة لتشييد ماكيت مصغر للمدينة قبل ربع قرن، "قاهرة 2020"، والتي أصبحت الآن "العاصمة السابقة لمصر". تلتقي الأزمنة المختلفة في الرواية في الغاليري من دون أن تتقاطع الشخصيات أو تلتقي لا فيزيائيا ولا تربطها سوى فكرة واحدة، وهي انها شخصيات روائية تتعاقب وتتحكم بمصيرها شخصية أخرى داخل مدينة ترى صورتها في مرآة مدينة أخرى، ويعيش فيها هؤلاء الأشخاص الثلاثة "أوريجا، نود، بلياردو" مصائرهم تتراوح بين الضحايا والأبطال، لكنها تميل للضحايا أكثر.

تبدأ الرواية بجملة ذات صدى مختلف "يتذكر أوريجا أنه كان طفلاً حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعا بجبهته متخيلا أنه مسدس وأطلق دوياً من فمه: بوم". وعادة ما تكون الجملة الأولى في الرواية مفتاح القارئ إلى العمل، فإما أن تأخذه في طريق واضح المعالم، وساعتها يصير الكتاب رفيقه الذي لا يتركه ويقرر أن يسافر معه حتى نهاية الرحلة، أو تودي به إلى متاهة لا يخرج منها بسهولة، وقد ينفر من الكتاب ويرميه جانباً. ومن الجمل التي حظيت بمديح جملة غابرييل غارسيا ماركيز في "مئة عام من العزلة" التي جاء فيها " بعد سنوات عدة، وأمام فصيل الإعدام رمياً بالرصاص، يتذكر العقيد أوريليانو بوينديا، ابن خوسيه أركاديو، بعد ظهر ذلك اليوم البعيد عندما اصطحبه والده لاكتشاف الثلج".

تقدم لنا جملة طارق إمام أول شخصية في الرواية "أوريجا"، الذي لا يجد القارئ سهولة كي يتآلف معه أو يغريه للدخول في عالم الرواية، حيث يعلو سقف المتخيل الغرائبي وأسلوب السرد المفعم بالدهشة المتواتر جدا حد الارباك واثارة حالة من التشتت، لا سيما أن اللغة تبدو غريبة أحياناً "بادرة اعجاب بدت مثل شمس قزمة في سماء وجهها الجليدي"، وينتهي هذا الفصل الذي يستغرق مساحة 15 صفحة من الكتاب بعبارة تحيل على الجملة الأولى "إن رصاصة متخيلة يمكن، أيضا، أن تمحو شخصاً حقيقياً"، وتضع إطاراً لشخصية اوريجا الذي يعمل بالفن المستقل والمغرم بتشييد ماكيتات مصغرة للمدينة والموصوم منذ طفولته بقتل الأب، الذي يعود للاجتماع به في حضور أمه في سياق لقاء ماضي القاهرة بحاضرها.

ومع الشخصية الثانية "نود" تتضح معالم المسرح قليلاً. هي مخرجة وثائقية ملاحقة خارجة من الحبس سنتين بتهمة "خدش الحياء العام" بسبب فيلمها السابق، وذهبت إلى مقابلة عمل مع "المسز" ذاتها التي استقبلت اوريجا في الفصل الأول من أجل مسابقة "ماكيت القاهرة"، وفي هذا الفصل تبدو عجوزا، بينما كانت في نظر اوريجا في الفصل الأول "كبرت لتعود طفلة". وتقوم لعبة الكاتب من حول شخصية (ماكيت) "نود"، انها اكتشفت عندما نظرت الى جسدها في المرآة شراكة غامضة في الجسد الواحد، الشخص الثاني فيها "مكتمل لا ينقصه سوى أن يوجد"، وهذا ما يأخذها نحو متاهة تتعاقب فيها التحولات في الجسد والملامح والمشاعر، حتى يصير الجسد نفسه يحمل وجها آخر، وبسبب هذا الآخر لم تستطع إقامة علاقة مع رجل آخر، حتى صار مجرد التفكير بالارتباط خيانة، وستعيش للأبد وفيه لشخص لا جسد له. وعلى مستوى اللغة يتقاطع الفصل الثاني مع سابقه في عمليتي التكثيف والتعقيد والتفلسف المتكلف "كان زجاج النافذة المغلق عاريا من الستائر، من ذلك النوع الذي يصنع فقط كي ينقل ما خلفه دون أن يعكس ظل الرائي، شفافا مثل لغة في جريدة".

قبل أن يمسك القارئ طرف خيط، يجد نفسه يدخل الباب الثالث المعنون "بلياردو" ومهنته خطاط ويتعامل مع نفسه كلص، وكان "يحب أن يرى نفسه كذلك"، وتعيش هذه الشخصية في القاهرة تاريخ العام 2011، ما يجعل التفكير يذهب مباشرة نحو ثورة 25 يناير. وبالفعل تتضح الحكاية أكثر، ويبدأ الغموض الذي خيم على الفصلين السابقين بالتشقق قليلاً وجزئياً، لأن الكاتب لا يغادر لعبة السرد اللغوي الذي يكتفي بذاته "عندما أصبح راسه في مواجهة رأس جداريته، وبعد أن ابتلع الاستغراب بدأ يتأمل وجهه المضاعف من أقرب نقطة". بلياردو يمضي الوقت وهو يسير في شوارع القاهرة ورأسه ينحني على الأرض، يفتش عما يسقط من الآخرين "في القاهرة، التي لن تعثر على شيء مهما تطلعت لأعلى، وكان يشعر بانتصار غريب كلما عثر على شيء نافع، متخيلا أسى صاحبه، وربما كان هذا الأسى المتخيل هو بالتحديد انتقامه الشخصي، ولذا "تبنى عقيدة مفادها ان شيء هو حق أصيل لمن يجده، لا لمن يفقده"، وذات يوم يعثر على عين حيه مرمية على الاسفلت فيحملها، ويسير بها وهو يبحث عن أصلها، وحين يمر من جانب حراس الميدان" وديعون ومتوحشون، أسهل شيء أن يحولوا دموعهم إلى دماء آخرين"، يتبادر إلى ذهنه أن صاحب العين بالتأكيد من "شباب الثورة"، لكن القصة تأخذ ابعادا مختلفة، حينما يكتشف أن هذه العين هي عينه التي سقطت منه، او بالأحرى "هي نسخة عملاقة من عينه" والتي ستتأمله وتفيض بالدموع، وبهذه العين عاد يرى تحت ضوء جديد مدينة مفردة لأول مرة. العين المستعادة تعيده الى نقطة البدء. وتصبح لعبة كشف العيون التي يمارسها مع بعض زوار المقهى مثيرة السخرية، ويأتي الجواب "كشف عذرية"، في إحالة إلى ممارسات الأمن المصري مع بعض النساء اللاتي كن يترددن على ميدان التحرير خلال ثورة يناير. وتتضح معالم شخصية بلياردو أكثر بعد حضورها في فصل لاحق، فيبدو الخطاط ورسام الغرافيتي في زمن ثورة يناير، المطارد على الدوام بتهمة تلويث جدران المدينة، اكثر صلة بالناس، ولكن "اندلاع الاحتجاجات أصاب الناس بالشلل" وتبدو هذه الفترة هي اكثر فترة في حياته تردد فيها على المساجد... المحصنة ضد غضب الحكام والمحكومين معا"، ومن ثم "يذهب مرة بعد فترة لأداء صلاة كاذبة".

فكرة "ماكيت القاهرة" تعيدنا إلى مقابلة أوريجا مع "المسز" في تقطيع رقم 4 ويستمر الحديث عن القتل والزناد والطلقة الأولى والأخيرة، وينتقل بسرعة نحو الأصل والتقليد والمحاكاة، ويتواصل الحدث بالتورية حول القاهرة "كأن القاهرة بعيدة جدا، مكان يقع خلف حدود ما، على ضفة أخرى، او في بعد مختلف من الزمن". ولكن حين اشارت "المسز" للخارج فإنه رأى الزجاج ولم ير القاهرة. وهنا يتطرق الحديث بالتلميح إلى الماكيت، ليطرح هو السؤال: هل يهدف ماكيت القاهرة الى الايهام بالواقع ام تكراره؟ ويقاطعه سؤال "المسز" الأخير، لو ان الاختيار وقع عليك لتنفيذ ماكيت وسط المدينة بماكيت القاهرة من أين ستبدأ. وكان الجواب سأبدأ ببيتي. ويقع عليه الاختيار ليكون "صانع ماكيت وسط القاهرة" رغم تلعثمه في المقابلة، والهدف من الماكيت إعادة تجسيد المدينة في واقع مواز، والمهمة المرجوة هي أن يكون قادراً على إيهام المشاهد، ليس حقيقياً، بل إنه أحد قاطنيها "الإيهام بالواقع"، وهذا المعماري الذي تخرج من دار الأيتام كان قد انجذب مبكرا الى فن المصغرات، حتى أنه تمنى أن يعيش في عالم متقمص، وكان "يرى تكبيراً زائفاً لنظير، ضوعف حجمه قسراً".

هناك أكثر من رواية في الرواية، تدور جميعها في القاهرة التي تتحول إلى ماكيت يدمر نفسه بنفسه، ولو أن الكاتب تخلص من الهوامش الزائدة، وتصرف بعفوية، لكانت الروايات الثلاث قد بدت واضحة. وتبقى القاهرة مدينة خالدة وهي تحول أبناءها إلى ضحايا إلى حد أنهم لا يحملون أسماء، بل ألقاباً وهم عبارة عن ماكيتات يصنعها آخرون من أجل تدميرها "لا أحد يندهش في القاهرة والأسفلت يتشرّب بالتّساوي الدماء والمطر والقلق، ثم ينشّفها جميعا لتعود المدينة إلى جفافها ورطوبتها وسخونة هوائها، كأنها ظهيرة أبدية على تبدّل الفصول والمواقيت".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها