الأحد 2022/05/15

آخر تحديث: 08:11 (بيروت)

عمتم صباحاً يا سادة: نلتقي في صناديق الاقتراع…

الأحد 2022/05/15
عمتم صباحاً يا سادة: نلتقي في صناديق الاقتراع…
الانتخابات النيابية 2022 عملية اقتراع موظفي الدولة في بيروت(علي علوش)
increase حجم الخط decrease
نظرت المرأة الفتيّة إلى طفلتها الراقدة في سرير محمول وقالت: «جئت أنتخب من أجلها، لكي يصبح لها وطن تعتزّ به (تشوف حالا فيه)». هل تناهى إلى مسامعكم، قبل ثورة 17 تشرين، مثل هذا المنطق التغييريّ الذي يكاد يلامس الجنون؟ امرأة في مقتبل العمر، متغرّبة عن بلدها (لا أذكر أين، دبي، باريس، لندن؟)، تغادر، بلا أسف، ركوة قهوتها على منضدة في صحن الدار، ترتدي ثيابها على عجل، تدسّ نفسها مع طفلتها وزوجها في سيّارة أو في عربة قطار، تستهين بالمسافات، وتأتي إلى صندوق الاقتراع كي تصنع لابنتها وطناً جميلاً، وطناً يليق بالأطفال والعصافير والغمام الذي يهرول فوق صنّين.

أيّ وطن هو هذا الذي تحلم هذه المرأة بأن يكون لطفلتها؟ وطن فيه كثير من الكرامة وقليل من التلوّث؟ وطن تمنح فيه المرأة الجنسيّة لأولادها؟ وطن يُقرّ فيه مجلس النوّاب الكوتا النسائيّة بوصفها خطوةً أولى ضروريّةً لكسر ذكوريّة المجتمع الفاقعة؟ وطن لا تُضرب فيه النساء في بيوتهنّ؟ وطن لا تمارس فيه المحاكم المدنيّة والدينيّة شريعة الذكر التي تختبئ في كلّ ثنيّة من ثنايا التشريع؟ وطن يستعيض عن كونه «منبتاً للرجال» بصيرورته منبتاً للإبداع سواء أتى هذا الإبداع من امرأة أو من رجل؟ وطن لا يخاف نوّابه من إعطاء حقّ التصويت لمن بلغوا الثامنة عشرة، لأنّ الشباب هم صانعو الثورة وطاقة التغيير، والسياسة لا تستقيم من دون ثورة وتغيير؟ لعلّ هذه المرأة كانت تحلم بهذا كلّه، وبما يختصر هذا كلّه، أي بوطن يليق بالحياة بعدما تحوّلت شوارعه وساحاته إلى مستنقعات للمرض والفقر والموت.


 من أين تأتي المعرفة أنّ ما نصنعه اليوم في صندوق الاقتراع ستكون له تداعيات لسنوات وسنوات؟ ومن أين تأتي الثقة بأنّ صناعة المستقبل هي بنت مسؤوليّة نتحمّلها في الراهن؟ لم أسمع إنساناً من «عامّة الناس»، من خارج طوابير «المثقّفين»، يتكلّم هكذا قبل ثورة ١٧ تشرين المجيدة. «هذا تغيير يمين العليّ»، يقول صاحب المزمور. وهذا التغيير انطلق مع هذه الثورة اللاعنفيّة، والتي كانت، بخلاف الثورات الأخرى على الاحتلالات والوصايات والسياسات، ثورةً على الذات بالدرجة الأولى. وهذا النوع من الثورات هو الأصعب في التاريخ على الإطلاق، لأنّ «النفس أمّارة بالسوء»، كما يقول القرآن الكريم. الذين اضطهدوا هذه الثورة وقمعوها بالجزمة والنار والتصويب على سواد العيون، الذين نعوها وأعلنوا فشلها عبر الأبواق الإعلاميّة، الذين أخذوا على المجموعات التي تكوّنت بفضلها تبعثرهم وتشرذمهم، كلّهم شاهدوا بأمّ العين كيف حفرت هذه الثورة نفوس اللبنانيّات واللبنانيّين الذين انتخبوا الأحد الماضي في دول الانتشار. شاهدوا واصطكّت أسنانهم فزعاً. وأدركوا أنّهم اخترعوا الكذبة وصدّقوها، وأنّه لم يبقَ لهم سوى أن يلتهموا أصنام التمر التي صنعتها أيديهم. فالثورة، أيّها السيّدات والسادة، ليست فورةً وتمضي، بل هي عمل تراكميّ دؤوب. والثورة، قبل كلّ شيء، فكرة تحفر العقول والنفوس، وتلتمع مثل فراشة في الضوء. حين قلنا لكم ذلك، لم تصدّقوا. واليوم، صدّقتم أم لم تصدّقوا، لا أحد يعبأ بذلك. ولا أحد يكترث لأحابيلكم ونفاقكم و«رقيّكم» في الكذب وتشويه الحقائق.


اليوم يوم الانتخابات. لا ينخدعنّ أحد. فالظروف ليست مثاليّة، والديمقراطيّة مكلومة: القانون ما زال على مقاس المفسدين في الأرض الذين حوّلوا الدولة إلى منهبة، والرشاوى بالأطنان، والطرقات اكتظّت بفجور المال الانتخابيّ، والسلطة تتقن لعبة التزوير، والميليشيات التي تسمّي ذاتها أحزاباً متمرّسة في بهلوانيّات الترغيب والترهيب. لكنّ هذا كلّه لن يطفئ الشمس. فثمّة ثورة في العقول تأبى أن تستكين. وثمّة جذوة في النفوس قادرة على تحويل برد اللامبالاة إلى لهيب يتلظّى.

نظرت المرأة الصبيّة إلى طفلتها وقالت: «جئت أنتخب من أجلها». فكّروا في هذه المرأة حين تستيقظون اليوم من سباتكم. فكّروا في طفلتها الراقدة على سرير الغنج. وفكّروا في ألكسندرا نجّار، التي تدثّرت بالصمت وصارت، بعد انفجار مرفأ بيروت، استعارةً كبرى لجيل يحلم بوطن من شمس وقمح وفراشات. فكّروا في هذا كلّه وقولوا للذين اتّصلوا بكم، طوال الأسابيع الماضية، وانهالوا عليكم ببطاقات الإعاشة و«المساعدات» الصحّيّة والمدرسيّة، وأغدقوا عليكم فتات الأموال، أموالكم التي ما برحوا يسرقونها منذ نهاية الحرب الأهليّة، قولوا لهم: «عمتم صباحاً يا سادة، نلتقي في صناديق الاقتراع».
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها