الثلاثاء 2022/04/05

آخر تحديث: 15:18 (بيروت)

"جزيرة الصبا" لكناوسغارد.. البحث عن كنز قوس قزح

الثلاثاء 2022/04/05
"جزيرة الصبا" لكناوسغارد.. البحث عن كنز قوس قزح
كناوسغارد
increase حجم الخط decrease
حسب ترتيب الأحداث، كان من الممكن أن تكون "جزيرة الصبا" أول أجزاء سداسية كارل أوفه كناوسغارد "كفاحي". لكن لو حدث ذلك، ربما لم يكن هذا العمل ليصل إلى ما وصل إليه، ولم يكن كاتبه ليتحول إلى ظاهرة عالمية. ففي الأجزاء الأولى شاهدنا كارل أوفه -البطل والمؤلف- شاباً، كاتباً، وغاضباً أيضاً من دون أن ندرك الأسباب الحقيقة وراء ذلك. وفي "جزيرة الصبا" الجزء الثالث الذي صدرت ترجمته العربية مؤخراً، نشاهده طفلاً، فنفهم كل شيء. فهو أشبه بمن يقدم النتيجة أولاً ثم يعود لتفسير أسبابها. بل يمكن القول أيضاً إن الطريقة التي تصدر بها الترجمة العربية للسداسية، بترك مساحة زمنية بين الجزء والآخر، ربما كانت أفضل طريقة لنشر الكتاب الذي يُقدَّم كأحجية، يحل كل جزء منها شيئاً مما سبقه، مساحة تمنح فرصة لاستيعاب وهضم ذلك العمل الكبير. وعلى أي حال، فالترتيب قد يؤخر الفهم العميق، لكنه لا يعطل متعة القراءة، وهو أحد أسرار كتابة كناوسغارد وسبب من أسباب نجاحه.

على امتداد صفحات الكتاب ستظل تسأل نفسك: ما المميز هنا؟ ما السر؟ لماذا لا أستطيع التوقف عن القراءة؟ فإن كانت متعة التلصص أحد دوافع قراءة الأجزاء الأولى، فما السر الذي يمكن أن يكشفه ذلك العالم الطفولي؟ لعله التدفق السلس للذكريات والسرد الدقيق لأدق التفاصيل، والعالم الذي نراه بعيني طفل ووعي كاتب مدهش، لا يدعي تقديم أي حكمة. عليك فقط أن تصبر وأن تستمر في القراءة وسيكافئك على صبرك، لأن الحكمة –إن كنت لا تزال مهتماً بالبحث عنها- ستتجسد وحدها أمامك من دون تكلف أو ادعاء. ربما تصبح كالمؤلف نفسه الذى يطارد أشباح ذاكرته، تماماً كما كان يطارد قوس قزح بحثاً عن الكنز المخبوء في طرفيه، ليكتشف في النهاية أنه لا شيء وأن الكنز في الرحلة نفسها.

هوية
من الصفحات الأولى للجزء الثالث، يضع كناوسغارد إطاراً مختلفا لما كانت عليه الأمور في الأجزاء الأولى. فلم تشكك تلك الأجزاء في أن ما يرويه هو سيرته الحقيقية، بل إن المتتبع للمسألة سيجد أنه عانى نتيجة ذلك، وأنه خسر أهله وأصدقاءه، بل واجه دعاوى قضائية. الأمر يختلف قليلاً هنا، لأنه يشكك بطبيعة الحال، في إمكانية تذكر طفولته المبكرة، خصوصاً بالطريقة المعروفة عن كتابته التي يذكر فيها أدق التفاصيل -يكفي أن تعرف مثلاً أن الجزء الجديد يقع في أكثر من 500 صفحة من دون فصول أو فواصل- لكنه يدعم حجته بالصور. يقول إنه شاهد صوراً لا حصر لها لتلك الفترة من حياته، وحياة عائلته وأصدقائه، لكن قبل أن تتسرع وتقول إنه بنى عمله بناء على ما تذكره من تلك الصور، ستجد أنه يهدم هذه الفرضية تماماً ويؤكد إنها –الصور- لا تشكل أناه الحقيقة، بل إن اسمه نفسه قد لا يعبّر عن هويته الحقيقة وعما يكونه عبر السنين: "أوليس مما لا يصدق حقاً أن يحيط اسم بسيط واحد بأولئك الناس جميعاً؟ الجنين الذي في البطن، والرضيع الذي على طاولة تبديل الحفاضات، والأربعيني أمام كمبيوتره، والعجوز في كرسيه، والجثة على الطاولة؟ ألا يكون أمراً طبيعياً أن يمتلك أسماء كثيرة لأن هويات تلك الشخصيات، وإدراك كل منها لنفسها، مختلف هذا الاختلاف كله؟" بالتالي كانت الصور وفق هذه الرؤية عديمة المعني، لكنه ربما استخدمها في النهاية لتحديد الإطار الذي يتحرك فيه العمل، ولأنها تشكل جزءاً من هويته أيضاً.

يستمر كناوسغارد في التشكيك في الذاكرة. يقول إنها ليست شيئاً موثوقاً في الحياة، لأنها لا تضع الحقيقة في المقام الأول، بل إن المصلحة تحركها بالأساس، فالذاكرة نفعية "تفعل كل ما تستطيع فعله لكي يكون صاحبها راضياً"، فتدفع أحياناً بواحدة من الذكريات إلى غياهب النسيان، وأحياناً تشوهها فلا يعود التعرف عليها ممكناً، وأحيانا تسيء فهمها إساءة تامة، أو تستعيدها بكل ما فيها من جلاء ووضوح: "أما ما تتذكره تذكراً صحيحاً، فأنت غير قادر على تقريره، ولا على تمييزه وسط هذا كله". ويشّبه أفعال الذاكرة في النهاية، بالغبار الذي تثيره سيارة عابرة، أو بذور زهرة ذابلة تذروها نفخة من فم صغير.

نقطة المركز
النقطة المركزية في الأجزاء السابقة كانت علاقة الكاتب بوالده، حتى إن عنوان الأجزاء "موت في العائلة" كان إحالة مباشرة لوالده الذي بدأت من عنده الأحداث، أو بموته بالأحرى. لكن حضوره هو محرك الأحداث هذه المرة، حضور طاغ حتى على الأم التي كانت الأقرب لكناوسغارد والتي اعتبرها "نقطة المركز" في حياته. لذا، يستغرب هو نفسه غيابها، يقول إنها كانت غائبة غياباً شبه تام عن ذاكرته، طيلة الشهور التي كان يكتب فيها، كانت غائبة عن طوفان ذكرياته، عن الحوادث التي جرت، وعن الأشخاص الذين أعاد إحيائهم في ذهنه "كأنها لم تكن موجودة هناك، بل كأنها واحدة من تلك الذكريات الزائفة التي تكون لدى المرء، الذكريات التي هي ليست ذكريات، بل أموراً سمعها من غيره، لا ذكريات عاشها بنفسه". يتعجب من نفسه ومن ذاكرته التي تتلاعب به وتبعد عنه أهم الأشخاص وأقربهم، فهو يقول عنها مثلاً: "إن كان هناك من أحد، في قعر البئر التي هي طفولتي، فلن يكون فيه غيرها.. غير أمي" ورغم ذلك هي غائبة فعلاً، غائبة تماماً، تظهر في خلفية المشهد، تعد الطعام، أو تقدم هدية، أو نصيحة، ذاهبة إلى العمل أو عائدة منه، غير ذلك هي غير موجودة، غياب تام لصالح شخصية أخرى، لصالح الأب المهيمن على كل شيء، والمكروه بشكل حاد وصريح. فلا يخفي كناوسغارد خوفه وكراهيته لوالده إلى الحد الذي تمنى فيه صراحه موت والده أو موته هو نفسه فقط ليثير الأسى في نفس ذلك الأب وليفكر في ما فعله به!

قضية كانت ظلالها واضحة في الأجزاء الأولى، لكن جذورها تتعرى هنا ويتضح عمقها، نشاهد مع كناوسغارد العالم من زاوية نظر ذلك الطفل الذي كان لايزال وقتها في الصفوف الابتدائية، ومع أب صارم كوالده ربما كان طبيعياً أن تخفت الأضواء حوله. حتى إن فضل أمه يتركز فقط في وجودها، يقول إنها أنقذته لأنها لو لم تكن موجودة، لكبُر مع أبيه وحده "ولقتلت نفسي عاجلاً أو آجلاً"! استطاعت أمه إحداث التوازن داخل العائلة، وحافظت على استمرارها. ورغم أنهما ربياه هو واخيه معاً، إلا أنه لا يشعر أن تربيته كانت نتاجاً مشتركاً لأنه كان يميز أحدهما عن الآخر تمييزاً صارماً؛ الأم كانت نادراً ما تغضب أو تعاقبه أو تتسبب في بكائه، في حين كان والده تجسيداً لأكبر مخاوفه إلى حد عجز عن وصفه بدقه أو التعبير عنه كما ينبغي. كان غضبه، كما يصفه، ينفجر مثل موجة، ينداح عبر الغرف: "يصفعني غضبه... يصفعني ويصفعني ويصفعني، ثم يتراجع". بعدها كان يمكن أن يظل هادئاً لأسابيع. لكنه لم يكن هدوءاً حقيقياً، لأن الغضب كان من الممكن –بكل سهولة- أن يظهر بعد دقيقتين، أو بعد يومين، كان غضبه يأتي بلا سابق إنذار، حتى تساوى لدى الابن الضرب من عدمه: "لم يكن الألم هو ما أخشاه، بل صوته، وجهه، جسده، الغضب الذي يشعه، هذا ما كنت أخشاه، هذا ما لم يفارقني ذعره أبداً. كان ذعراً عشته في كل يوم من أيام طفولتي".

درس
قادته تلك العلاقة المتوترة مع والده إلى تعميق صلته بالقراءة، ليس لأنه كان يحرضه عليها، لكن لأنه، وفقط هناك، في العقل والمخيلة، كان قادراً على سحقه! "في مخيلتي، أصير قادراً على لكمه لكمة شديدة على أنفه حتى ينكسر ويسيل منه الدم. أو ألكمه على وجهه حتى يدخل عظمه في دماغه ويموت". رغم ذلك، أو ربما لذلك، قرأ كناوسغارد أكثر بكثير من أي طفل في عمره. تعلم من كل ما قرأه أن عليه أن يمتلك الشجاعة، وأنها قد تكون أعلى الخصال شأناً، تعلم أن يكون مخلصاً وصادقاً في تعاملاته كلها، وأن عليه ألا يضعف أو يستسلم أو يخذل الآخرين أبداً. لكن ذلك لم يمنعه من أن يفكر في نفع كل تلك المثُل، وهو ضعيف كثير البكاء وعاجز تماماً أمام الجميع: "كنت أشعر بالظلم لأنني، من بين الناس جميعاً، أعرف تلك الأشياء كلها عن الشجاعة، ثم يأتي من يجلس فوقي وأكون ضعيفاً أمامه!".

الدرس الأبرز الذي خرج به كناوسغارد من تجربته مع والده، لخّصه في جملة واحدة، خرج به لمرة وحيدة تقريباً خارج سياق الأحداث والتجارب الطفولية الممتدة على طول النص، يقول: "أنا حي، ولدي أطفالي الذين حاولت معهم تحقيق هدف واحد فقط: ألا يكون لديهم خوف من أبيهم"، ويزعم أنه نجح في هذا بالفعل: "أدخل الغرفة فلا ينكمشون على أنفسهم. ولا يُطرقون برؤوسهم إلى الأرض، ولا يندفعون خارجين من المكان لحظة تحين لهم أول فرصة للخروج.. لا.. إنهم ينظرون إليّ؛ وهي ليست نظرة عدم اكتراث، أبدا! إن كان هناك من يستمتع بأن يتجاهله أطفاله لحظة، فهو أنا. وإن كان هناك أشخاص يسعدني أن يعتبروني مضموناً من أجلهم، فهم أطفالي. وإذا نسوا وجودي نسياناً تاماً عندما يصيرون في الأربعين من العمر، فسوف أشكرهم وأنحني لهم وأعتبر هذا هدية منهم".

(*) صدرت الترجمة العربية للجزء الثالث من سداسية الكاتب النروجي كارل أوفه كناوسغارد "كفاحي"، بعنوان "جزيرة الصبا"، عن دار التنوير، وترجمها الحارث النبهان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها