الجمعة 2022/03/04

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

الكلاسيكيات الروسية.. تضييق أوروبي مخجل ورواج عربي مضلل!

الجمعة 2022/03/04
الكلاسيكيات الروسية.. تضييق أوروبي مخجل ورواج عربي مضلل!
فيودور_دوستويفسكي
increase حجم الخط decrease
تتواتر أنباء عن بعض التضييق المخجل والمؤسف على الكلاسيكيات الروسية في الغرب، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، مثلما ألغت إحدى جامعات ميلانو سلسلة محاضرات عن أدب دوستويفسكي، ثم تراجعت بعد موجة غضب في منصات التواصل الاجتماعي. على أن الكلاسيكيات الروسية تلاقي رواجاً مدهشاً في منطقتنا العربية! 
 
لكن قبل أن تتسرع وتصدر أي أحكام، يجب أن تعرف ما هو الرائج بالتحديد. إذ كشفت الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب ما يشبه الترسيخ لظاهرة إعادة ترجمة المتَرجم من الأعمال الكلاسيكية، الروسية تحديداً، في دور النشر المصرية والعربية على السواء، غالبيتها من دور حديثة إلى حد ما ولمترجمين جدد غير معروفين. كان الأمر قد بدأ مع الدُّور الكبيرة في سنوات سابقة، والآن بات الجميع يترجم تولستوي ودوستويفسكي! والأغرب أن تلك الترجمات حققت المطلوب بالفعل، فكانت تلك الكلاسيكيات عاملاً مشتركاً في لائحة الأكثر مبيعاً لدى مختلف دور النشر المشاركة في المعرض.

حالياً، لا يكاد يمرّ يوم تقريباً من دون أن يتكرر السؤال نفسه، على صفحة من صفحات القراءة التي أصبحت منتشرة في فايسبوك مؤخراً، ويدور السؤال في الغالب حول جودة ترجمة معينة لإحدى الكلاسيكيات الروسية. غالباً ما تكون الدار مجهولة، والمترجم كذلك، وتكون التعليقات في مجملها استهزاء بالترجمة موضع السؤال، وترشيحاً لأسماء أفضل ومواساة للقارئ "غير المحترف" الذي وقع ضحية لعملية نصب متكررة!

سرقة
غالبية تلك الترجمات ليست جيدة، وبعضها ليس جديداً، كما أكد لنا الكاتب والمترجم أحمد الخميسي، صاحب الخبرة الطويلة في الأدب الروسي، فيقول إن ما يحدث حالياً هو نقل للترجمات القديمة وتشويهها تحت مسمى التحديث أو "إعادة سرقة الترجمات القديمة نفسها"، لأن الطبعات القديمة من تلك الترجمات نفدت والسوق يحتاج لهذه السلعة، خصوصاً أنها بلا حقوق، "كمية ترجمات ضخمة جداً بلا صاحب، مسألة مغرية". 

أما مسألة الطلب الكبير فلا تدهش الخميسي، إذ يرى أن سر الرواج الدائم للأدب الروسي، أنه يمثل حالة خاصة جداً في سياق الأدب الأوروبي، ورغم أن مكسيم غوركي، أحد عمالقة الكتابة الروسية، كان يرى أنه أدب حديث بالنسبة لأوروبا، فإن آخرين ومنهم همنغواي نفسه، كانوا يرون أن الأدب الحقيقي يبدأ بالأدب الروسي. لذلك فلا غرابة أن يعدّه الخميسي "الأدب العالمي بمعناه الواضح"، الأدب الذي يجمع بين الشرقي والأوروبي، ونتيجة لظروف تاريخية واجتماعية كثيرة جداً، فهو قادر على مخاطبة العالم كله، "بالإضافة إلى أنه محمل بملمح كان قد أشار إليه يحيى حقي، وهو قضية العدالة، فهذا الأدب يحمل هموم العالم إن، صح القول".

المشكلة، كما يوضح الخميسي، كانت أن غالبية الترجمات المبكرة للأدب الروسي، تمّت من طريق لغة ثالثة وليست عن الروسية مباشرة. من هنا، ظهرت الحاجة إلى التجديد: "سامي الدروبي مثلاً ترجم عن الفرنسية، وقرأناه جميعاً بإعجاب لأن لغته العربية جميلة"، لكن الخميسي يقول أيضاً إنه عندما كان في روسيا، علم أن أبناء الدوربي طلبوا من دار "التقدم" إعادة نشر ترجمات والدهم، لكن الدار طلبت مراجعة الترجمة. وقتها، شارك الخميسي مع المترجم الكبير أبوبكر يوسف، في مراجعة مجموعة من الترجمات، "ووجدنا أشياء كثيرة جداً لا علاقة لها بالنص الأصلي"! هذا لا ينتقص من جهد الدروبي كما يقول الخميسي، لكنه يشير إلى إمكانية إعادة النظر في بعض الترجمات التي تمت عن لغات وسيطة. 

ورغم ذلك، يعود الخميسي ليقول إنه، حتى مع افتراض وجود من يستطيع القيام بهذا الدور الكبير، فالأفضل في رأيه وما نحتاجه فعلاً هو ترجمة الجديد، لا العودة للقديم أياً كانت حالته، لأنها في النهاية "أعمال تُرجمت في ظروف ولغة عصرها وانتهى الأمر"، ومهمة المؤسسات الثقافية حالياً هي اطلاعنا على أوضاع الأدب في اللحظة الراهنة، وأن تقتصر إعادة الترجمة على الأعمال الفارقة والمهمة والتي ترجمت في ظروف غير مواتية، "فلا يمكن تحديث كل شيء لأنه لا يمكن تحديث التاريخ كله". كما أن الوضع الحالي وما يحدث الآن، لا يقربنا من الأدباء الروس الحقيقيين، بعدما أصبحت الغالبية "إما تسرق الترجمات القديمة وتشوهها أو تترجم روايات تافهة".

وما يزيد الأمر صعوبة، أن الدولة الروسية نفسها رفعت يدها عن معاهد الاستشراق وأغلقت دور النشر، في الوقت الذي اختفى فيه المترجمون الذين كانوا يعيشون هناك ويعرفون كل شيء، ولم ينشأ جيل جديد عاش واحتك بالبلد وثقافتها فعلاً. يقول الخميسي: "الموجود والمتاح الآن طلاب درسوا في بلادهم فقط، وهذا يفقدهم الكثير من الخبرات التي تحتاجها ترجمة النصوص". 

البحث عن ضحية
لكن ترجمة الأدب الحديث ليست مهمة سهلة، بل إن صعوبتها هي على الأغلب ما يدفع بالناشرين والمترجمين للبحث عن الكلاسيكيات، وفقاً لرؤية المترجم أحمد صلاح الدين، الذي يرى أن الفوضى الحالية سببها تجاري بحت: ناشرون يريدون امتلاك حقوق لأعمال شهيرة ومتاحة من دون أن يدفعوا أي شيء، وبالطبع من دون أن يبحثوا عن ترجمات جيدة تتطلب دفع مقابل جيد، يجدون ضالتهم في مترجمين مغمورين، يبحثون أيضاً عن الشهرة، فيتحدون معاً لتقديم منتج رديء رخيص لا علاقة له بالنص الأصلي لقارئ يبحث في الغالب عن "المنظرة" لا الثقافة الحقيقية، "أشبه بالتاجر عديم الضمير الذي يتعامل مع زبون لمرة واحدة فلا يهمه أن ينصب عليه. لكن من يُخدع مرة سيعرف بعد ذلك أين يبحث عن الترجمة الجيدة".

معالجة الأخطاء هي المبرر الوحيد لإعادة النظر في الترجمة القديمة، وقلة فقط تستطيع التعامل مع هذه الأعمال الكبيرة، في نظر أحمد صلاح، وغير ذلك إهدار للوقت والمال، وإساءة لتلك النصوص العظيمة، بل حتى لعملية القراءة نفسها.

صورة جديدة
لكن التجارب ليست متشابهة، والأمور ليست كلها مظلمة في نهاية الأمر، هناك من يدفع بالرواج في اتجاه مغاير، دار "آفاق"، على سبيل المثال. فبعد نشرها يوميات تولستوي، وبعض الأعمال المهمة للأسماء الروسية الشهيرة، بدأت مؤخراً تجربة جديدة تحاول فيها تحقيق التوازن، من خلال سلسلة "مختارات من الأدب الروسي" التي تأمل أن تقدّم من خلالها طرحاً جديداً لهذا الأدب، يراقب فيه القارئ تطورات المجتمع الروسي على مستويات عديدة، وتطور الأدب نفسه وتقنياته بمرور الزمن. ورصدت بعض الصعوبات التي يواجهها القراء عند قراءة الأعمال الروسية، أبرزها ما يتعلق بالارتباط الوثيق بين غالبية الأعمال الأدبية وبين السياق الاجتماعي والسياسي الذي يجهله القارئ عادة، وتزداد المشكلة عند قراءة أعمال بشكل عشوائي وغير مرتب زمنياً، وبالتالي تظهر أسئلة عن سياقات مجهولة للقارئ. من هنا، تحاول، عبر المشروع الجديد، تقديم الأدب الروسي بصورة جديدة تعتمد على طرح الأعمال المهمّة والفارقة بترتيبها الزمني، مع الأخذ في الاعتبار، أن تعبّر عن قضايا ذات أهمية إنسانية واجتماعية واضحة، وأن يكون مؤلفو هذه الأعمال من الأسماء المهمة في تاريخ الأدب الروسي، والتي لم تأخذ حقها من النشر والانتشار في العالم العربي.

(إيفان تورغينيف)

نشرت الدار بالفعل عملين ضمن هذه السلسلة: "من المذنب؟" لألكسندر غيرتسن، و"أنطون البائس" لديمتري غريغوروفيتش، وهي أسماء ربما لم تُترجم لها أي أعمال بالعربية من قبل، وحتى قراءة أوّلية للعملين ستوضح إلى أي حد كانت الأرض قد أصبحت ممهدة بالفعل قبل ظهور دوستويفسكي وتولستوي وتورغنيف، الأسماء البارزة في الأدب الروسي، وتثبت أن فن الرواية كان قد قطع بالفعل أشواطاً كبيرة جداً من حيث الأسلوب والمواضيع وحتى التجريب، وأن الأرض ربما كانت قد أصبحت خصبة بالفعل انتظاراً لبذورهم الجديدة. أعمال لم تتعمق في نقد الأحوال الاجتماعية والسياسية فحسب، بل أوحت بأسئلة باتت في ما بعد محاور أعمال تولستوي ودوستويفسكي وآخرين. 

مترجم السلسلة، يوسف نبيل، يقول: "مِلتُ إلى ترجمة أعمال لم تترجم سابقًا لعتاولة الأدب الروسي. بدأت مشروعي بالأعمال الفكرية لليف تولستوي، حتى وصلت إلى فكرة سلسلة "مختارات من الأدب الروسي"، التي تتناول أعمالاً روسية مهمة في سياقها التاريخي والاجتماعي، ومرتّبة زمنيًا لتصير بمثابة بانوراما للمجتمع الروسي وأدبه عبر التاريخ".

نقرأ أي شيء
في محاولته لتفسير ظاهرة الرواج الحالي، يرى نبيل إن الإجابة تقتضى بنا العودة إلى أكثر من عشرة أعوام مضت. بالتحديد حينما اندلعت ثورة يناير في مصر، والثورات الأخرى في المنطقة العربية، وقتها نشأت دور نشر صغيرة كثيرة جدًا، وكان هناك تعطش استمرّ لبضعة أعوام للكتابة المحلية وقراءة أصوات جديدة، وما إلى ذلك. استمرّت الحركة قليلاً ثم تشبّع السوق نسبيًا من هذه الكتابة، ويبدو أن القارئ بدأ يميل إلى الأعمال المترجمة بعدما وجد عددًا ضخمًا من الكتابات المحلية دون المستوى. التقط بعض دور النشر هذا التغيّر، وحاول التوجه إلى الترجمات. الأرخص كلفة بالطبع، أن تنشر الدار أعمالاً سقطت حقوق مؤلفيها. ثمة دور النشر بحثت أيضًا عن أعمال سقطتْ حقوق مترجميها. بدأ الأمر بإعادة نشر بعض الكتب القيمة، التي نُشرت منذ زمن بعيد ولم تعد موجودة في السوق. حاكت غالبية دور النشر الفكرة لتتحوّل إلى نوع من الإهمال المفزع: نشر أي كتاب قديم سقطت حقوقه بلا مراجعة أو تمحيص أو حتى تفكير. 


(غوركي)

لكن نبيل يشير، في المقابل، إلى مشروعات قوية في هذا التوجه لها ثقلها: مثلاً إعادة ترجمة كلاسيكيات كانت قد تُرجمت بشكل سيء فعلاً، أو بلغة صارت قديمة جدًا. يحدث هذا في الغرب، حيث تعاد ترجمة الأعمال الكلاسيكية كل بضعة عقود، لتغيّر اللغة. لكن وسط الموجة الدارجة هنا، اختلطت المشروعات الجدية في هذا الاتجاه، بمشروعات أخرى لا تنظر إلى شيء سوى دفع أقل كلفة ممكنة. بعض أصحاب دور النشر يقول: "أريد أن تكون لدي أعمال لدوستويفسكي وتولستوي وجورج أورويل"، بغض النظر عن العمل أو جودته أو ما شابه. يعود هذا بوضوح إلى ضمان بيعه. حتى الآن، ورغم تزوير كل الكلاسيكيات تقريبًا، وإتاحتها بشكل غير قانوني في الإنترنت، ما زالت هذه الكتب تحظى في الغالب بمبيعات ضخمة لأن هناك فئة كبيرة من القراء تقرأ أي شيء: كلاسيكيات عظيمة وكتباً تافهة، وهذه الفئة لا تشغل بالها بالاستعلام عن المترجم أو ما شابه؛ تلتقط العنوان فورًا من دون تفكير. يبدأ أحدهم القراءة فيُقال له لا بدّ أن تقرأ لدوستويفسكي وماركيز، ويقرنهما بأحمد مراد وباولو كويلو مثلاً!

هناك أيضاً أعمال كلاسيكية مهمة جدًا تُرجمت ترجمات مختصرة، أو ترجمات كاملة عن لغات وسيطة. ويرى نبيل أنه لا مانع من إعادة ترجمة هذه الأعمال، ترجمة تردّ الاعتبار لها، "لكن للأسف تحديد هذه الأولوية صعب جدًا في ظل غياب النقد الترجمي". لكنه، رغم ذلك، يظن إن المسار العام سيتغير في الأعوام المقبلة، فمع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وازدياد عدد دور النشر، صارت المنافسة صعبة: "ستشهد الأعوام المقبلة إغلاق عدد كبير من دور النشر. بمرور الوقت أيضًا، ينشأ نوع من الوعي لدى فئة كبيرة من القراء بأهمية الترجمة والمترجم، ومن ثم يميل بعض القراء إلى قراءة أعمال لمترجمين بعينهم". 

بشكل عام يرى نبيل إن بعض التجارب الأخيرة لدور النشر الطموحة، أثبتت إن بعض المخاطرة قد يحقق النجاح المرجو من دون الاتكاء على السهل والمضمون وتكرار الترجمات بلا طائل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها