الإثنين 2022/02/28

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

"بلفاست" كينيث براناه.. نوستالجيا هروبية تناسب الأوسكار

الإثنين 2022/02/28
increase حجم الخط decrease
منذ فيلم الدراما التاريخية من العام 1989، "هنري الخامس"، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، اعتاش كينيث براناه على سمعته باعتباره – ربما - أعظم ممثل شكسبيري منذ لورانس أوليفييه. يجسّد براناه في الفيلم، الذي أخرجه أيضاً، دور الملك الشاب النبيل الذي يخوض الحرب ضد فرنسا لانتزاع التاج الفرنسي، أو على الأقل للمطالبة بالعرش بعد أن ينال غنيمته الكبرى متمثلة في ابنة الملك الفرنسي. انتصر هنري في معركة أجينكور (1415) واستطاع أيضاً غزو فرنسا، مستفيداً من الانقسامات السياسية داخل البلاد، رغم تفوق الفرنسيين عددياً، ما أعطى الإنكليز تلك الصورة البطولية عن أنفسهم باعتبارهم أسوداً تقاتل مثل الرجال بغض النظر عن وضعهم.

كان براناه ماهراً في الترويج لشكسبير وشعْبَنته، لكن لا "الكثير من اللغط حول لا شيء"، ولا "عطيل"، ولا "هاملت"، ولا أي من اقتباساته الشكسبيرية اللاحقة، استطاعت منافسة "هنري الخامس". انتقل براناه إلى هوليوود وأضوائها الباهرة، ثم عاد إلى "بي بي سي" بصفته المفوض والاندر في مسلسل بوليسي حقق نجاحاً وانتشاراً جماهيرياً واسعاً. في الآونة الأخيرة، حوَّل تركيزه إلى إعادة إنتاج روايات أغاثا كريستي المسليّة والخفيفة، وآخرها فيلمه الممنوع من العرض في لبنان "موت على ضفاف النيل". لكنه في فيلمه الأكثر صخباً لهذا العام، "بلفاست"، يرنو إلى مزيد من الاهتمام والتقدير، بما في ذلك جوائز الأوسكار.

وُلد براناه وترعرع في بلفاست، حتى غادر والديه أيرلندا الشمالية للعمل في إنكلترا. "بلفاست" فيلم بيوغرافي، لكنه بالأحرى تكريم للسينما والطفولة، رثائي أحياناً، وعاطفي أحياناً أخرى، ونوستالجي على الدوام.

يفتتح الفيلم حكايته بأغنية لأسطورة الموسيقى الأيرلندية فان موريسون (واحدة من عشر أغنيات له تتناثر بطول الفيلم) وبلقطة عُلوية من "درون" حائمة فوق بلفاست كما نعرفها اليوم، ميناء حديث ومدينة صناعية لم تعد تحمل أي تشابه مع المكان الذي شهد في أواخر ستينيات القرن الماضي "الاضطرابات"(*) الشبيهة بالحرب الأهلية والإرهاب وعنف الشرطة والظلم الاجتماعي والأصولية الطائفية. لكن بعد ذلك، يفتح الفيلم كوة في حائط التاريخ، ويتحوّل من الألوان إلى الأبيض والأسود، ويأخذنا إلى شارع عادي في بلفاست في العام 1969، يبدو كديكور استديو سينمائي أكثر منه شارعاً حقيقاً: بادي (جودي هيل)، الأنا المستعارة لكينيث براناه نفسه، ابن السنوات التسع، يعيش في أحد تلك المنازل المتجاورة والمتشابهة، حيث يلعب دور قاتل التنين في الخارج مع أطفال الحيّ، بينما في الداخل تقوم الأمهات بإعداد الشطائر لتناول الشاي. يعمل الأبّ في إنكلترا، ويعود إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع كل أسبوعين. ما زال الكاثوليك والبروتستانت يعيشون جنباً إلى جنب في سلامٍ نسبي، أبناء الطائفتين يتحدثون بلهجة مضحكة، ويشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية مقارنة بالإنكليز: يشفق بعضهم على بعض بعدما استعبدهم دين الخوف.

بالطبع، يقتحم العنف هذا المكان الشاعري الوادع أيضاً. ينزل حشد بروتستانتي في الشارع لطرد الأقلية الكاثوليكية من منازلها، ثم تُرفع الجدران والأسلاك الشائكة، وتتقدَّم الدبابات، ويتحكّم الحرّاس في المداخل والمخارج. يصبح الحي منطقة محظورة، وتتولّى المليشيات القيادة. يريد الأب (جيمي دورنان) مغادرة بلفاست، وإنكلترا تعرض عليه فرصة مواتية أقرب مما تقترحه الهجرة إلى أستراليا البعيدة، وتعارضه الأم (كاترينا بالف): "لا يمكننا أن نغادر جميعاً، فلا يغادر إلا المجانين". "لكن كيف لبقية العالم الحصول على حانات إذا لم يهاجر الأيرلنديون؟!"، تردّ صديقتها في مشهدٍ تالٍ. الشيء الرئيسي هو أن تصاحب تلك اللحظات موسيقى حزينة جنائزية.

لا يدرك بادي ما يحصل حوله. كيف يمكن لطفل في عمره أن يفهم "الاضطرابات"؟ يعيش حياة طفل يبلغ من العمر تسع سنوات، يسمح لنفسه بمجاراة تحريض صديقته الشقية على سرقة الحلويات من متجر البقالة الهندي، وقلبه معلّق بزميلته الجميلة في المدرسة (بالضبط كما توقعت، هي كاثوليكية). مشاهد مألوفة في الأفلام أكثر من كونها مألوفة في حياة حقيقية. عندما تذاع الأخبار، تقوم الأم بإطفاء التلفزيون. طاقم التمثيل الرباعي الرئيسي، يبدو مُحبِطاً بعض الشيء، رغم ترشّح اثنين منهم لجائزتي أوسكار (كيران هايندز وجودي دانش).


مثل حكايات الطفولة السينمائية، تندلع لحظات قوية بين الحين والآخر في عالم الأفلام النمطي هذا: على سبيل المثال، عندما يسأل بادي صديقته الشقية عن كيفية التعرّف على الكاثوليك (من خلال أسمائهم، إذ يتسمّون بأسماء بعينها مثل شون وباتريك). أو بماذا يجيب عندما تسأله المليشيا عما إذا كان بروتستانتياً أم كاثوليكياً (يقول الحقيقة أم يخادع؟). عندما يعطيه "رجل الحليب" المليشياوي رسائل ليوصلها إلى أخيه الأكبر. عندما تسأل الأمّ مكتب الضرائب عما إذا كان زوجها قد سدّد بالفعل جميع ديونه الضريبية، فيبدأ المكتب على الفور في التنقيب عن ديون مستحقة جديدة. أو عندما يعلّمه الجدّ أن يكتب الأرقام في مسائل الرياضيات بطريقة أكثر تشويشاً لزيادة فرصه في الحصول على إجابة صحيحة: "لكن هناك إجابة واحدة صحيحة"، يعترض بادي، فيعاجله جدّه الحكيم بالإجابة: "إن كان ذلك صحيحاً لما فَجَّر الناس بعضهم البعض".

في المقابل، تدخل السينما دائماً إلى عالم الطفل ذي التسع سنوات. نهبُ أحد المتاجر في أحداث الشغب ينتقل بسلاسة إلى مشهد المبارزة من فيلم "عزّ الظهيرة" (1952، فريد زينمان)، وتبدو سعادة العائلة في ظهيرة يوم أحد أثناء مشاهدة فيلم عائلي كوميدي، وأخيراً يدعو براناه والدي بادي - بعد جنازة الجدّ - إلى أداء راقص على أنغام "الحب الأبدي". لا اعتراض مطلقاً ضد "الفَنفَنة" في الجنازات، لكن روح الدعابة التي يفرضها كينيث براناه على فيلمه هنا تناقض قصته الشخصية، إن لم تكذّبها. في النهاية، قد يشعر الجميع بأنهم أخذوا واجبهم وأكرمت وفادتهم، إذ يُهدي براناه فيلمه إلى "أولئك الذين بقوا، والذين غادروا، والذين فُقدوا".

ما يتبقّى هو قصةّ لطيفة وخفيفة بأبيض وأسود ديجيتال أنيق ولامع، تلوّنه مشاهد الأفلام الكلاسيكية، كحيلة رخيصة نسبياً لإبراز تأثير هذا الشكل من الهروب. وإذا كان براناه يرى السينما كمجرد هروب من الواقع، فإن ذلك من شأنه على الأقل أن يفسّر المنظور المحبِط لفيلمه، أو بالأحرى غياب هذا المنظور من أساسه. يبدو أن "بلفاست"، المرشَّح لسبع جوائز أوسكار، بما في ذلك جائزة أفضل فيلم، يهدف في المقام الأول إلى إرضاء أوسع قدر ممكن من الجمهور. فهو فيلم لا يتخذ موقفاً من أجل الإساءة لأقل عدد ممكن من الناس، ولكن من خلال القيام بذلك يبدو أنه ليس لديه الكثير ليقوله.

نال "بلفاست" جائزة الجمهور في مهرجان تورونتو السينمائي، وهي جائزة تنالها عادةً أفلام بارزة في سباق الأوسكار، ليست بالضرورة الأفضل، لكنها تخاطب المشاعر المجانية للمشاهدين. والحال إنه فيلم محدود للغاية بالنسبة إلى طموحاته، وكاريكاتوري بحيث لا يصحّ اعتباره مذكرات شخصية. لا تكمن مشكلته بالضرورة في أنه لا يريد أن يتسخ في الساحات السياسية الأكثر تعقيداً في التاريخ، رغم أن رواية أحداثه لا تقتصر على وجهة نظر الطفل. لكن بسبب سيادة النوستالجيا وأجواء الإشادة بمرونة سكان المدينة في أكثر مراحلها تعقيداً، نادراً ما يفلت من إطار كونه مجرد كتيب سياحي حديث يقول بأنه، قبل عقود، لم تكن الأمور جيدة كما هي الآن، "لكننا نعرف كيف نتدبر أمورنا". لا يحتاج الطفل إلى فهم أن الأشياء كانت أكثر تعقيداً مما يظهر هنا، لكن يجب أن يتولّى براناه (61 عاماً) مسؤولية ذلك. المنظور الذي يمنحه له الوقت (يفتح الفيلم ويختتم بصور وادعة ومغازلة لبلفاست اليوم) يضيف إلى انفصاله عن الواقع.

هذا فيلم أوسكاري بامتياز، بسنتماليته وخفته واستسهالة وتهويمه وميوعته، فهنيئاً للأكاديمية اختيارها، وهنيئاً لكينيث براناه رقمه القياسي الجديد.

(*) كانت الاضطرابات نزاعاً عرقياً قومياً في أيرلندا الشمالية استمر نحو 30 عاماً من أواخر الستينيات إلى العام 1998. يُعرف أيضاً دولياً باسم صراع أيرلندا الشمالية، ويوصف أحياناً بأنه "حرب غير نظامية" أو "حرب منخفضة المستوى". ورغم أن الاضطرابات وقعت في الغالب في أيرلندا الشمالية، فقد امتد العنف في بعض الأحيان إلى أجزاء من جمهورية أيرلندا وإنكلترا وأوروبا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها