الأحد 2022/02/20

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

درس محيي الدين اللباد.. لا توجد وصفة للغلاف الناجح

الأحد 2022/02/20
increase حجم الخط decrease
 
(*) مقالة للزميل أسامة فاروق عن الفنان المصري محيي الدين اللباد، من ضمن ملف عن ثقافة أغلفة الكتب وفنونها، معانيها وتأويلاتها، وتأتي بعد شهادة للكاتب والناشر السوري فايز علام عن تجربته في "دار سرد".


لا يمكن الحديث عن أغلفة الكتب دون الإشارة لمحيي الدين اللباد. رغم أنه أكبر بكثير من مجرد فنان أغلفة، هو "صانع كتب" كما كان يحب أن يلقب. وهو أكبر من ذلك أيضا. اللباد صانع مرحلة مهمة في تصميم الكتب والجرائد والمجلات العربية.

 

آمن اللباد بأنه لا توجد وصفه مضمونة لعمل غلاف ناجح وموفق، وأن تقدّم هذا الفن سيظل دائما رهنا بتقدّم تقنيات الطباعة والتجليد، وأيضاً بالتقدم في صناعة الورق والأحبار، وبالتأكيد برامج التصميم على الكمبيوتر، رغم أن غالبية إنتاجه سبقت مراحل غزو الكمبيوتر لهذا المجال، وكان تعليقه بعد أن أصبح ضرورة لا يمكن تجاوزها أنه لا يجب الموافقة على الإغراق في الاستعمال المجاني لما أسماه "ألعاب الكمبيوتر الرخيصة" في التصميم، تلك التي "يعتمدها البعض للتظاهر بأنهم أنفقوا جهدا كبيرا في عملهم، وكأنهم من قاموا بأنفسهم بتلك الألعاب الجاهزة الوضيعة من تجسيم للحروف أو تحويلها إلى معدن سميك، إلى إشباع الصور والمساحات "بخا" و"نقشا" وتركيبا لصور فوق بعضها البعض بلا حساب وبلا مقصد".

طوّر اللباد في شكل الكتاب العربي انطلاقاً من إيمانه العميق بفرادته وضرورة تميزه، ونتيجة قراءات ودراسات متعدّدة في تاريخ الكتاب وتطور صناعته منذ ورق البردى حتى الآن، بحث في روائع الكتاب العربي عبر الزمن، ووجد تميزاً عربياً واضحاً في هذا المجال ربما لأن الكتاب ارتبط عندنا نحن العرب بالتقديس والإجلال حتى وإن لم يكن كتاباً دينياً، وجد اللباد أيضا أن كثيرين قد شاهدوا رسوم المخطوطات العربية المنقوشة والمذهبة، لكن لم تتح الفرصة لأخرين ليتأملوا روح التصميم الخاصة والتقاليد المميزة التي تجلت على صفحات الكتاب العربي المنسوخ والمزوق باليد، من هنا حرص على تقديم قراءات متعددة ووافية لمناطق الجمال وللمساحة البصرية في هذه الكتب، يقول: "تميزت صفحة الكتاب العربي بالأناقة ورقي التصميم ورهافة الحس، وتتبدى هذه الجماليات في العلاقة بين مستطيل النص المشغول الكثيف، وبين الهوامش الواسعة البيضاء التي تركت حوله بحس روحي ومعماري وجمالي بالغ الحداثة".

التضاد بين المساحة المشغولة بالنص وبين بياض الهامش لم يكن يستهدف الجمال المجرد فقط حسب قراءته بل إن الهامش الأبيض المتّسع كان متروكا لغاية أخرى هامة وهي: حوار القارئ مع نص الكتاب، حيث كان القارئ يشغل هذه الهوامش بتعليقاته على النص معارضة وتصويباً واستطراداً، بل وأحياناً تحقيقاً "وقد بلغت تعليقات وشروح بعض الكتاب القدامى على هوامش كتب من سبقوهم أو عاصروهم أن أصبحت (تلك التعليقات والشروح) كتبا نشرت مستقلة في ما بعد".

شاهد اللباد دور الكتب في العالم تحتفظ بنماذج مهمة لتصميم صفحات الكتب في البلدان العربية، وتتبدى وفق ما شاهده من تلك النماذج خبرة استثنائية مبكرة بالتصميم الغرافيكي، ومع ظهور المطبعة العربية انتقل الكتاب إلى مدى جديد وفق ما يقول: في التصميم والتقاليد التيبوغرافية، وفي أول القرن الثامن عشر بدأنا نطالع صفحات من الكتب العربية وقد حملت رسوما أصيلة، ثم رأينا أغلفة للكتب العربية المطبوعة تحمل عناصر تصميم وزخارف تحيط بأعمال ممتازة من الخط العربي للعناوين وأسماء المؤلفين، وبدأت الرسوم تتكاثر على الأغلفة على استحياء، وفي مصر وعدد من البلدان العربية الأخرى، كان المعتاد في أغلفة الكتب قريباً مما اعتادته أوروبا والولايات المتحدة.

وقتها لم يكن هناك تمييز واضح بين "تصميم غلاف الكتاب" وبين "رسم غلاف الكتاب" إذ كان هناك رسام يستطيع كتابة الخطوط بالإضافة إلى الرسم، أو كان هناك شخصان: رسام وخطاط. يشرح: كان الرسام يرسم رسمه على قطعة من الورق، ثم يأتي الخطاط ليكتب على الورقة نفسها عنوان الكتاب واسم المؤلف واسم الناشر. وهكذا ينجز غلاف الكتاب جاهزاً ومركباً على ورقة واحدة، يجري تصويرها والحصول منها على "الرواسم" التي سيطبع منها الغلاف في ما بعد.

تطورت الأدوات المتعلقة بالعملية بالكامل وأيضا تطورت "البديهة الثقافية" ولم تعد تقبل بأن يكون رسام الكتاب مجرّد حرفي شاطر جاهزا لرسم أي غلاف لأي كتاب، من هنا تعاظم دور "الغرافيكي" على حساب دور الرسام "وربما كان التوفيق النادر –الآن- هو في وجود "المصمم الغرافيكي/الرسام" فالغرافيكي قادر دائماً على الابتعاد لمسافة محسوبة، بينه وبين النص دون أن يزيف نفسه، أو يتهافت منافقاً النص فيقلل من شأنه، أو يثقله بما لم يرده الكاتب".

الغرامية
علاقة اللباد بالكتب تجاوزت فكرة القارئ أو المتفرج وحتى الصانع ووصلت إلى حد العلاقة "الغرامية" كما وصفها، لكن المفارقة أن تلك العلاقة الغرامية كانت تتحول إلى الضد تماماً أحياناً، بالتحديد مع الكتب القبيحة، فاللباد كان يكره الكتاب القبيح كرهاً مبيناً "لا أستطيع النظر إليه طويلاً، وأحياناً لا أستطيع لمسه، ولا أستطيع قراءته مهما كانت أهمية النص الذي يحتويه بين غلافيه إن كانا قبيحين. والأدهى أني لا أستطيع أن أحتفظ في مكتبتي بكتاب قبيح على الإطلاق"... الجانب الآخر في علاقة الغرام تلك أنه أبدا لم يخن محبوبه، فلم يقبل أن يكون مسؤولاً عن كتاب لا يقتنع بنصه أو لا يوافق على أفكاره أو على فقر فنه، لذا طوال السنوات الطويلة كان يعمل بمنطق الهواية المتمكنة من صاحبها إلى درجة أن ينفذ ما لم يكلف به "كنت أظل مشغولا على الدوام بذلك المحبوب حتى وإن لم يبادر بمشاغلتي، وتمتلئ بعض أدراجي بتصميمات لأغلفة كتب وهمية لم تطلب مني، ولم تصدر، بل ولم تكتب أصلا".

لطالما رفض اللباد الهيمنة الغربية والتبعية العربية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمجال الذي عشقه، كتَب في الباب الذي كان يحرره في مجلة "صباح الخير" بعنوان "نظر" مقالات أظهر فيها غضباً واضحاً من التبعية العربية للغرب في مجال التصميم، تبعية أخرجت منتجات مشوهة وأغفلت في المقابل نماذج عربية كانت تستحق الظهور، يتحدّث دائماً من منطق القوة، وكره التبعية والتقليد حتى داخل البلد الواحد، وطغت نظرته تلك على قراءته لكل شيء، يقول مثلا تعليقاً على صدور طبعة ألمانية من رواية صنع الله إبراهيم الشهيرة "اللجنة": "طالما استفزتنا تلك السلسلة من الإعلانات العملاقة للمشروب اللذيذ المنعش على حوائط عمارات القاهرة، والتي صورت علامة الكوكاكولا المميزة بلونها العدواني القوي وهي تشكل السماء المسيطرة فوق رموز قومية هامة مثل أبي الهول والهرم ومسجد القلعة. واليوم نجد أن استفزازنا كان مبرراً ووجيها، فها هو الخواجة يضع صورة واحد من تلك الإعلانات كما هو، وبلا تعديل أو إضافة ليكون غلاف الرواية التي تحكي عن الخذلان والانسحاق والتهافت أمام القوة الأجنبية القامعة".

تبرز في حياة اللباد الكثير من العلامات منها مشاركته في تأسيس دار "شرقيات" وقدم خلال تلك المرحلة أكثر من 90 كتاباً، سبقتها تجربة "دار الفتى العربي"، وتجربة "كتاب في جريدة" التي جمعت بين خبرة تصميم الكتب والجرائد في الوقت نفسه، وفي مطلع الثمانينيات كانت تجربته مع دار "ابن رشد" في بيروت، وفي مطلع التسعينيات قدم تجربة جديدة في صناعة الكتب غير القصصية للفتيات والفتيان وهي التي يتناول كل منها موضوعا واحدا يدور حول الاتصال البصري. وفي كل هذه التجارب قدّم مفهوماً جديداً لفكرة صانع الكتب ومصمم الأغلفة وكانت نصيحته الدائمة التي ينقلها لكل مصمم عبر أعماله أن يسيطر على تصميمه وعلى مقصده، وأن يكون قائداً محركاً للتقنيات الحديثة وليس أسيرا لها "عليه أن يكون عارفاً مجيداً للتقنيات، ومدركا للشق المفهومي والفلسفي للعمل: الاثنين في آن معا".


سيرة موجزة:

محيي الدين اللباد ولد في 25 مارس 1940 بالقاهرة. درس التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة 1957-1962 . من قبل تخرجه احترف الرسم والتأليف للأطفال، وكذا رسم الكاريكاتير والإخراج الغرافيكي. أسس وشارك في تأسيس وإدارة مشاريع ثقافية عديدة مصرية وعربية موجهة للصغار والكبار. حاضر وشارك في لجان التحكيم المتخصصة محليا وعالميا. ترك إرثاً غنياً من رسوم الكاريكاتير وتصميمات الجرائد والمجلات والملصقات والمطبوعات التحريرية، والكتب الطليعية المقدمة للكبار، أو المؤلفة والمرسومة للأطفال. نال العديد من الجوائز المحلية والعالمية، ورحل عن عالمنا في 4 سبتمبر 2010.

(*) المقالة من ضمن ملف 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها