الثلاثاء 2022/02/01

آخر تحديث: 12:50 (بيروت)

"ماكبث" جويل كوين.. تعالي أيتها الأرواح الشريرة

الثلاثاء 2022/02/01
increase حجم الخط decrease
يعود تاريخ دراما ويليام شكسبير "مأساة ماكبث" إلى أكثر من 400 عام، لكنها لم تفقد شيئًا من جاذبيتها للمسرح، ولأكثر من قرن حتى الآن بالنسبة لصانعي الأفلام، بل على العكس من ذلك. فلا تكاد توجد مرحلة في عمر السينما لم تعاود فيها زيارة المسرحية حول صعود وسقوط الزوجين المتعطشين للسلطة، والعديد من هذه الاقتباسات السينمائية أسطورية، مثل "ماكبث" لأورسون ويلز من العام 1948، "عرش الدمّ" لأكيرا كوروساوا من العام 1957، والتي نقلت الصراع إلى اليابان، أو نسخة رومان بولانسكي المتعطشة للدماء من العام 1971. نسخٌ أخرى أُنجزت لكنها تاهت وأدركها النسيان. الآن حان دور نسخة ما بعد دونالد ترامب، والتي يقدّمها الأميركي جويل كوين من دون أن يكلّف نفسه عناء جلب المادة الشكسبيرية إلى الحاضر أو الواقع المُعاش، وإنما بدلاً من ذلك يكشف عن جذورها المسرحية تقريباً.


كل ما في "ماكبث"(*) جويل كوين هو ليل وضباب - أول فيلم في مسيرته ينجزه دون التعاون مع شقيقه إيثان. ليلٌ ضبابي مقيم، أبيض شاحب، وأحياناً يعمي الأبصار. أو كما يقول نصّ شكسبير نفسه، عندما سأل ماكبث (دينزل واشنطن) الليدي ماكبث (فرانسيس مكدورماند)، "كم مضى من الليل؟"، تجيبه: "نحن في ساعة يتنازع فيها الليل والنهار". هذه المعضلة وذلك الصراع لم يُحلّا أبداً، لا في المسرحية الأصلية ولا في فيلم كوين، الذي اختار تبايناً شديداً باللونين الأبيض والأسود، من دون أي رمادي تقريباً، لتقديم وصف أفضل لهذه المواجهة، التي ليست بين الخير والشر (فقد انتصر الشرّ منذ زمن طويل)، لكن بين الليل والنهار، بين النوم واليقظة.

يبدأ الأمر برغبة تغذّيها نبوءة، وحين ينال الطامح مناله في العرش، تُنسج خيوط العنكبوت. يحاول ماكبث بلا جدوى الاستيقاظ من الكابوس الذي غرق فيه، ولا ينال مراده قط، رغم كل جهوده. يحدث الشيء نفسه لليدي ماكبث، التي بدأت بدفع زوجها إلى هاوية الخيانة والقتل - مقتل الملك دنكان (بريندان غليسون) - لكنها، بعد ذلك، يدركها ما نال زوجها من كوابيس مؤرّقة لا يمكنها تفاديها، حتى ينتهي بها الأمر إلى المشي والكلام أثناء نومها، تضيء طريقها شمعة مرتجفة لا يقود نورها إلى أي مكان. كما كتب الخبير الشكسبيري يان كوت، الذي ربما يكون أفضل مفسّري شكسبير، فإن "ماكبث" "هي ليلة أُبعد عنها النوم؛ في أي من مآسي شكسبير لم يتحدث عن النوم كما في هذه المأساة. لقد قتل ماكبث النوم، ومن ثمّ لم يعد قادراً على بلوغه. لا أحد يستطيع النوم في كل اسكتلندا. ذهب النوم ولم يبق سوى الكوابيس".


يسعى جويل كوين إلى هذا الجوّ شبه الحلُمي، ليس فقط بالتصوير السينمائي للفرنسي برونو ديلبونيل (الذي كان عمل مع الشقيقين كوين منذ اتجاههما إلى كاميرات الديجتال) وإنما أيضاً، بشكل خاص، بالتصميم المسرحي والمضاد للطبيعية لمواقع الأحداث، والذي يؤكد على السجن الميتافيزيقي الذي تعيش فيه شخصياته. قلعة ماكبث - التي تبدو كأنها قطعة ديكور خارجة من أوبرا ما - هي سجنه المكين. حتى غرفة نومه تشبه زنزانة، بقضبانٍ ناشبة في السقف، هناك حيث تداوم الساحرات اللواتي أعلنّ مصيره المأسوي بإزعاج نومه، مثل نسور تنتظر الجيف. تذكّر الممرات اللانهائية الزاخرة بها مشاهد الفيلم، بتلك التي رسمها الإيطالي غورغيو دي شيريكو، بتلك الزوايا والأركان المزعجة الخالية من الحياة. كل شيء في هذا العالم عبارة عن مسارات فرار وخطوط انطلاق، ومع ذلك ليس لماكبث مكان يهرب إليه، ولا يمكنه الهروب من ضميره، كما يتضح من الطلقات/القعقعات المزلزلة المتكررة، حين يبدو أن السماء ستسقط عليه.

يصوّر جويل كوين "ماكبث" باعتباره كابوساً تعبيرياً بالأبيض والأسود، محصوراً داخل إطار صورة مربع تقريباً. القلعة التي صمّمها ستيفان ديشان هي شكل أكثر تجريداً من المبنى الحقيقي، تسوده خطوط واضحة وكفافية، وأيضاً في الأزياء التي صمّمتها ماري زوفريس، يلقي الضوء بظلال قوية، مثلما في رواية مصوّرة أو فيلم درامي صامت لكارل ثيودور دراير. من ناحية أخرى، فالمناظر الطبيعية، العالم الخارجي، بأشجاره الكسيحة أحادية اللون، يصعب استيعابها أو قبض مرامها، لتعمل في الأغلب كمستقطرات ضباب أو غشاوات متلألئة.

هذه الأسلبة المتطرّفة، هذه التعرية التقليلية، وإرادة التجريد الواضحة جداً. ربما تكون أكبر مشكلات الفيلم، أو على الأقل المشكلة التي تُدخله في تناقض مع النصّ المسرحي الذي يتغذّى منه. ربما لا مأساة دموية في أعمال شكسبير أكثر من "ماكبث"، لا شيء من بقية أعماله فيه الدمّ يلطخ الملابس والأيدي وأروقة الحكم، كما هنا، بينما ليس هناك ما هو أكثر نظافة وبرودة وأقل دموية من نسخة جويل كوين من "ماكبث". بالمقارنة، تكاد نسخة رومان بولانسكي توصف بالدموية، وحتى تلك النسخ السينمائية المصوّرة بالأبيض والأسود، مثل أفلام أورسون ويلز وأكيرا كوروساوا، تظلّ وحشية وفظيعة مقارنة بماكبث الأنيق والمركّب والفاتر، المزهو ببرودة صورته الديجيتال وألعاب الخداع البصري.

الشخصيتان الرئيسيتان أكبر سنّاً من معظم الاقتباسات الأخرى، ما يمنح أفعالهما الدافعة يأساً معيناً لم تحتج إليه المسرحية الأصلية. دينزل واشنطن، 66 عاماً، الذي لعب دور شكسبير بشكل متقطع طوال حياته المهنية، على خشبة المسرح والشاشة، يجسّد ماكبث كرجل معتدل وعقلاني يستحيل شخصاً سوسيوباثياً عبر رغبته في السلطة. يتلفّظ واشنطن بتلك السطور التي تعود إلى قرون كما لو كانت محادثة يومية، وهذا فقط جانب وحيد من جودة أدائه. فرانسيس مكدورماند، 64 عاماً، بعد سنة واحدة من ظهورها المتوَّج بالأوسكار في فيلم "نومادلاند" لكلوي تشاو، لا تحتاج سوى إيماءات صغيرة في هذا الدور المختلف تماماً، ليس أقلها في مونولوغ الليدي ماكبث أثناء سيرها في نومها، والذي قاد العديد من زميلاتها السالفات إلى مبالغات تمثيلية فائضة.

كل من مكدورماند وواشنطن يصقلان النصّ بانضباط الأداء وسلطة الحضور، لكن الـ"ميزانسين" يصيبهما أيضاً بهيراطيقيته ومحاولته إسباغ القداسة والجلال الكئيبين على عالم الفيلم. فهذا فيلم مسكون بأشباح قديمة، سواء تمثّلت في شخصياته أو في النصّ نفسه وتاريخه الثقافي. أضحت "مأساة ماكبث" خزانة رعب يؤمّها الراغبون في بعث كل الموتى الأحياء من التاريخ الثقافي للقرون الماضية، للنبش في آثارهم وتظهير انعكاساتهم في سياق تاريخي مختلف. يستحضرهم كوين بسحر البعبع الهادر، فيمكن للمتفرج رؤية طاغيته المُلحّ في صورة ماكبث. يبدو النص الشعري نفسه لجويل كوين ككيان شبحي، تجريداً مذهلاً يقابله جمالياً باشتغالٍ مخلص لروح العمل. ما لم يكن قادراً على فعله تماماً هو الحفر عميقاً في قاع النصّ، لفتح وجهات نظر مثيرة للاهتمام.

يفتقد المرء المزيد من الهذيان، والمزيد من اليأس، والمزيد من الجنون. يتأسّس الفيلم على محاولة لتكرار النصّ، ويستمر في مسعاه بأداء التلميذ الذي يدرس كثيراً ليعيد على مسامع معلّمه ما حفظه. احترام الكمال، عظيم ومحمود، لكن المرء يغادر الفيلم، مثلما يحدث بعد نهاية عرض مسرحي في أحد مسارح الدولة، حيث يغمغم كل فرد في الردهة جملة متعَبة لا علاقة لها بالموضوع، فقط للتخلّص فوراً مما شاهده لتوه.

على أي حال، هذا منطقي ومتناغم تماماً مع المفهوم العام الحاكم للفيلم، والذي، باستثناء بريندان غليسون في دور الملك دنكان المغدور سيئ الحظ، لديه طاقم تمثيل ثانوي قليل الأهمية، قليل القوة، حتى في المواضع التي تشتد الحاجة إليها، مثلما في ماكداف (كوري هوكينز)، الخصم الأخير لماكبث، الرجل الذي "لم يُولد من رحم امرأة". رأس آخر مقطوع، وتتناثر الدماء. بعد ذلك يذهب المرء إلى حال سبيله. ما يتبقى هو "ماكبث" مثير للإعجاب سمعياً وبصرياً. زخرفة رائعة فوقها تنفجر غيوم ضباب كثيفة بلا حدود.

(*) يُعرض حالياً في "آبل تي في بلس".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها