الخميس 2022/12/29

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

وجوه أخرى لشهريار والمسيح والمجدلية في أدب محفوظ

الخميس 2022/12/29
وجوه أخرى لشهريار والمسيح والمجدلية في أدب محفوظ
نصب شهريار وشهرزاد في بغداد
increase حجم الخط decrease
وقع الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في غواية "ألف ليلة"، وقدم تحليلاتها في أعمال متعددة بخلاف كتابة المرجعي "العين والإبرة"، وربما لم يقرأها شخص مثله، فحتى من التصورات الخاطئة استطاع بناء نصوص متماسكة جديرة بالقراءة تقدّم أفكارا مهمة وملهمة حول الليالي وعملية القراءة ذاتها.

يقول مثلا إنه في كتاب "الغائب" المتعلّق بأحد مقامات الحريري، ركز على جمع من الأدباء شغلهم عن النوم ذات ليلة حديث ممتع مع عابر سبيل، ثم ربط الفكرة نفسها مع الليالي حين تشرع شهرزاد بطلب من اختها دنيازاد في رواية حكاية طوال الليل، ثم بحث فكرتين، الأولى هي عملية الحكي التي يشترك فيها ثلاثة شخوص لا اثنان كما يعتقد عادة، والثانية أن "لا أحد ينام في الليالي". يقول في كتابه "في جو من الندم الفكري": "تخيلت أن القارئ سيفاجأ بهذه الموازنة وأنه لا شك سيستحسنها، ولفرط ثقتي في نفسي أعدّت عرض الفكرة سنوات بعد ذلك في رواية أنبئوني بالرؤيا". لكنه يكتشف بعد ذلك عدم دقة المقاربة وأن النصوص المختلفة لليالي تؤكد أن أبطالها الثلاثة ربما ينامون جزءاً من الليل قبل بدء عملية الحكي.

لم يتوقف كيليطو هنا بل حاول التفسير لنفسه وللقارئ أيضا لماذا وقع في هذا الخطأ، واكتشف أنه ربما وقع تحت تأثير عمل مهم آخر تسبب في هذه القراءة، وهو ما حدث بالفعل وكان هذا العمل هو "مائة عام من العزلة" لماركيز التي تحكي عن إصابة سكان قرية بحمى الأرق فلا ينامون لمدة عشرين سنة!

آدم وحواء

من الليالي ينطلق الشاعر فتحي عبد السميع أيضا في كتابه الجديد "وجوه شهريار"  ليركز تحديدا على ما أشار إليه كيليطو من قبل، الطرف الآخر في الحكاية، المتلقي أو "المروى له" ومنطلقاً من فكرة أساسية تقوم على اعتبار شهريار وشهرزاد، آدم وحواء الأدب، وأن كل عمل أدبي له نصيب منهما، أو يدين بالفضل لكليهما، لأن كل عمل "يولد نتيجة إصغاء، ويتحول في وقت لاحق إلى قول جديد".

يستكمل فتحي ما بدأه كيليطو ويشرح في كتابة طبيعة الدور الذي يلعبه "شهريار" في الحكاية/ أي حكاية. باعتباره الكيان الذي لا تكتمل إلا به، رغم أن وجوده قد يبدو سلبيا "لكن مصير الحكايات يبقى مرهونا بقدرته على الإصغاء، وامتناعه عن الاستماع إلى الحكايات يعنى موت شهرزاد".

وشهرزاد هنا ليست مجرد راوٍ للحكاية بل هي حسب تفسيره لحظة الإبداع التي تنوّر وتروي للمبدع حكاية جديدة "هي الأنا الخلاقة التي تظهر أثناء الكتابة وتملي على الكاتب حكاية وراء الأخرى، هي النور الذي ينبثق في رحم الظلمة فيكون الإبداع، وواجب المبدع هو الإصغاء إليها وحفظ ما تمليه عليه".

المروي له

وبقدر الاهتمام الذي وجده الراوي في النقد العربي، عنى قليلون بفكرة المروي له الذي يقسمه الكتاب إلى قسمين: الأول هو المروي له الخارجي الذي ينتمي إلى عالم الواقع أو الحقيقة وهو القارئ أو المتلقي الذي يقرأ وقتما يشاء وبالكيفية التي يحددها. والثاني هو المروي له الداخلي وهو شخصية داخل القصة، تنتمي إلى عالم الوهم أو الخيال، ويخضع لشروط الراوي لا شروطه هو أثناء تلقي العمل. لكن هذا الاستقلال بين الشخصيتين لا يمنع وجود صلات تجمع بينهما كما يعود فتحي ليوضح، فكلاهما يستمع إلى حكاية واحدة، ويلعب دورا في حياتها، وكل رواية لا تقرأ هي في حكم الميتة.

لا يركز الكتّاب فقط على المروي له بل يقسم أطراف العملية الإبداعية كالتالي: الحكاء وهو مبدع الحكاية. الحكاء الأول وهو الذي أثر في الحكاية الجديدة، باعتبار أنه لا وجود لحكاية تبدأ من الصفر. الراوي الذي يلقي حكاية أبدعها غيره (شهرزاد). المروي له الذي يلعب دورا خارجيا في الحكاية (شهريار). المبدع الذي يعيد إنتاج حكاية قديمة (المبدع الجديد). المروي له الذي يلعب دورا داخليا في الحكاية باعتباره شخصية متخيلة، يخاطبها الراوي ولا يكتمل العمل إلا به.

عبر ذلك التقسيم الدقيق، يقرأ فتحي عبد السميع خمسة أعمال بحثا عن الوجوه المتعددة لشهريار وشهرزاد أيضاً. حيث يقدم قراءة في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ باعتباره حكاء، ثم مسرحية "الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ"، و مسرحية "شقة عم نجيب" كأمثلة على تحول الحكاء إلى حكاية، ويختار رواية "مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان" للروائي عبده جبير كنموذج على فكرة المروي له، وفي الفصل الرابع والأخير يتناول حكاية "الزير سالم" كنموذج على فكرة الحكاء الآخر الذي جاء بعد تدوين النص وأعاد إنتاجه بأشكال جديدة، وهو في هذه الحالة بالتحديد الشاعر أمل دنقل في ديوانه "أقوال جديدة عن حرب البسوس" حيث يعقد المؤلف مقارنة بين حدث مقتل كليب كما جاء في السيرة والقصيدة، ويكشف كيف تفوق أمل دنقل "الحكاء الآخر" على مبدع الحكاية الشعبية "الحكاء الأول".

ظل المسيح في "اللص والكلاب"

نتوقف هنا عند قراءة فتحي لرواية "اللص والكلاب" ليس فقط كنموذج على الفكرة العامة للكتاب حول الوجوه المتعددة لشهريار ولكن أيضا لأنه من الصعب تصديق أن هناك جانبا أو زاوية جديدة لم يُلتفت إليها في إبداع نجيب محفوظ، فلم يحظ كاتب عربي بمقدار ما حظى به من بحث وقراءة ودراسة. وكل عمل من أعماله جرت قراءته من عدة أوجه سياسية ودينية واجتماعية.. إلخ، لذا فإن أي اكتشاف جديد لا يمكن رده ببساطة إلى تقصير بل ربما هو سر عظمة الإبداع المحفوظي نفسه المتعدد الأوجه والمتسع للتأويلات. كما أنه لا يمكن في الوقت نفسه إغفال حق القارئ الجديد، القارئ المثالي ذلك الذي يستطيع استنباط المعاني الخافية والدلالات التي لم يُلتفت إليها، كما فعل فتحي عبد السميع في كتابه، فصحيح هناك أبحاث كثيرة حول التأثيرات المسيحية في أعمال نجيب محفوظ، لكن المؤلف يؤكد بالدلائل قصدية محفوظ في تذويب حكاية المسيح في "اللص والكلاب" لا تسربها بشكل غير واع عبر اللاشعور.

يؤكد المؤلف إن التشابه بدأ من الإطار الأساسي للقصة المتمحور حول "الخيانة". يقول إنها فكرة إنسانية قديمة، لكنها محورية في المسيحية "كما أن العلاقة الملتبسة بين الأنا والآخر تظهر في سيرة السيد المسيح مع تلاميذه"، ويتردّد صداها في مواضع عديدة داخل الرواية وفي حوارات يقتبس منها مثلا:

 "-المأساة الحقيقية هي أن عدونا هو صديقنا في الوقت نفسه.

-أبدا المأساة الحقيقية هي أن صديقنا هو عدونا".

وفق هذه الرؤية التي تعتمد على التناقض بين المظهر والجوهر يقارب فتحي بين شخصيات عديدة داخل الرواية والشخصيات المسيحية مثل يهوذا الإسخريوطي التلميذ الخائن، وبطرس الرسول الذي أنكر المسيح، ومريم المجدلية.

على عكس المتوقع لم يدمج محفوظ يهوذا في شخصية اللص/ السفاح، بل إنه باعد بينهما ودمجه في شخصيات أخرى، فحسب الدراسة تم استدعاء يهوذا "من أجل الآخرين الذين تسكنهم روح الشرير النموذجي ويعيشون بلا مطاردة، تم استدعاؤه كمرآة تكشف البراءة الكامنة خلف قناع الجريمة، والشر الحقيقي المتخفي خلف قناع البراءة". بالتالي كان حضور يهوذا مراوغاً على مستوى الشكل والمضمون، فلم نشعر بوجوده ونحن نقرأ الرواية اعتمادا على ظاهرها، ولم يلعب دوره المتوقع والمنتظر، يؤكد مؤلف الدراسة ذلك بقوله إن صورة يهوذا تحضر من خلال إشارات كثيرة لكنها مثل إشارات الصوفية تعتمد على الإيحاء لا التصريح، وهي تحضر لتراوغنا بالأساس فبدلا من أن تشوه اللص تقوم بتحريره من التشوهات "البطل يعرض نفسه بوصفه يهوذا خصم المسيح الضد، أو المسيح الدجال. يرتدي قناع يهوذا ليثبت أنه أبعد شخص عن يهوذا... لقد جاء من أجل براءة اللص لا من أجل إدانته".

العلامة الأبرز التي تقدمها الدراسة على يهوذا هي هويته بوصفه تلميذا وأمينا للصندوق، في إشارة وردت على لسان بطل الرواية وهو يعلن استعداده للعمل أمينا للصندوق في إدارة "رؤوف علوان". تظهر تلك العلامة الوحيدة في الحلم لا في الواقع وهو ما اعتبره المؤلف إصراراً من نجيب محفوظ على إخفاء شخصية يهوذا في أعماق الرواية "لأنه لا يريدها زينة خارجية، بل يريدها في العقل الباطن كالأحلام تماماً، لا يريدها فكرة تخاطب المستوى المنطقي، ويسهل دحضها بسبب جرائم اللص، يريد تسريبها إلى وجداننا وكأنه لم يفعل شيئاً".


نشاهد ظهور آخر للمجرم في هيئة يهوذا بشكل غير مباشر أيضا عندما يتوجه إلى فيلا الصحافي رؤوف علوان كي يسرقها، فيقبض عليه بمنتهى السهولة ويقول له: "من الغباء أن تجرب ألاعيبك معي أنا. أنا فاهمك وحافظك عن ظهر قلب. كنت في انتظارك. على أتم استعداد. بل ورسمت لك طريق السير. وددت لو يخطئ ظني؟ ولكن أي سوء ظن فيك يخطئ؟". ويعلق المؤلف بأن الفكرة نفسها وردت في قصة المسيح الذي كان يعرف ما في نفس يهوذا، وأنه كشف أمره لبعض المقربين، لكنه لم يفضحه، وكذلك فعل الصحافي ولم يقم بإبلاغ الشرطة بل ترك اللص يمضي.

ملامح المجدلية

بالطريقة نفسها يستمر فتحي في قراءة الرواية، فيرى أن نجيب محفوظ رسم شخصية "نور" بطلة الرواية وهو ينظر إلى "مريم المجدلية"، مشيراً إلى أن اقتراب محفوظ من المؤثرات المسيحية كان حذرا للغاية كما أنه كان حريصاً على تجنب النقاط الخلافية بينها وبين الرؤية الإسلامية للمسيح، لذا فإنه يتعذر الإمساك بالقصة بشكل واضح، لكنها تظهر إذا تعمقنا في قراءة الدلالات كبدلة الضابط مثلا التي تركها "مهران" في بيت "نور" والتي قرأها كدلاله على الكفن لأنها كانت السبب في قتلة عندما قادت أنوف الكلاب إلى مكانه "البدلة تشبه الكفن الذي تركه المسيح في القبر قبل صعوده وفق المعتقد المسيحي، وكانت مريم المجدلية وفق إنجيل يوحنا أول من اكتشف اختفاء المسيح من القبر، مع بقاء الأكفان والمنديل الذي كان على رأسه".

اسم نور وهويتها العائلية المقطوعة ومهنتها وحبّها الجارف لسعيد مهران، ملامح أخرى تستدل بها الدراسة على حضور المجدلية في الرواية، لكن التركيز الأكبر كان في اللغة وهي اللعبة الفنية التي تقوم عليها الرواية في الأساس، وتقدّم الدراسة عدّة نماذج للتدليل على أن من يقرأ الرواية وفي رأسه صورة المجدلية سوف يشعر بحضورها القوي في كلام نور، وهو الحال نفسه مع صورة بطرس الرسول الذي يحضر بشكل واضح في حوار البطل وابنته بعد خروجه من السجن.

ترصد الدراسة أخيراً تحوّل محفوظ من "شهريار" استمع واختزن حكايات المسيح، وحكاية السفاح محمود سليمان التي ظهرت في الصحف وربما ألهمته بالقصة، لشهرزاد/ حكاء آخر يعيد إنتاج تلك القصص في عمل روائي "لا عن طريق تكرارها بشكل حرفي، بل بإعادة إبداعها من جديد في سياق مختلف... فقدت فيه صلتها المباشرة بهويتها الأصلية، وصارت ذائبة في ذلك العالم الجديد، بحيث يصعب التعرف عليها إلا بالفحص الدقيق".

 

(*) صدر مؤخرا عن سلسلة "كتاب اليوم" في القاهرة

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها