السبت 2022/12/24

آخر تحديث: 08:12 (بيروت)

من "عزيز نيقولاس" و"نويل بابا"

السبت 2022/12/24
increase حجم الخط decrease
 

 

كما في كل عام، مع حلول عيد الميلاد، يعود بابا نويل، وتجتاح صوره العالم أجمع. هو في تركيا "نويل بابا"، وله تمثال كبير يحتل وسط مدينة دمرة في محافظة انطاليا، كما أن له متحفاً في هذه المدينة يضمّ كنيسة أثرية بيزنطية تُعرف باسم "نويل بابا كيلسيسي"، أي كنيسة نويل بابا، وهي في الأصل كنيسة "عزيز نيقولاس"، وعبارة "عزيز" في العالم التركي تعني القديس أو الولي، وتقابلها في السريانية عبارة "مار"، فكيف تحوّل "مار نقولا" إلى "بابا نويل"، وكيف غزا العالم الحديث بهذا الاسم المبتكر؟

 

هو في الكنيسة الأرثوذكسية "الجليل في القديسين نيقولاوس رئيس أساقفة ميرا الليسيّة"، وهو بحسب تعريف توما بيطار: "أكثر القدّيسين شهرة في كنيسة المسيح، شرقاً وغرباً، فصورته، كما ارتسمت في وجدان الناس عبر العصور، هي صورة الراعي الصالح، على مثال معلّمه. لا يترك إنساناً يستنجد به إلاّ هبّ إلى نجدته كائنة ما كانت حاله أو ضيقته أو حاجته. على مرّ العصور، بدا وكأنه قدّيس لكل ظرف وحاجة. بهذا المعنى كان، في هذا البلد أو ذاك، شفيعاً للتلامذة والأولاد العاقلين والفتيات اللواتي لا مهر لهن والبحّارة والصيّادين والعتّالين وباعة النبيذ وصنّاع البراميل وعمّال البيرة والتجّار والبقّالين والقصّابين والمسافرين والحجّاج والمظلومين والمحكومين والمحامين والأسرى والصرّافين وغيرهم".

وُلد في النصف الثاني من القرن الثالث في مدينة باتارا، في آسيا الصغرى، أي بر الأناضول، على ساحل ليسيا الذي يُعرف كذلك باسم ليقيا، وارتبط اسمه باسم مدينة ميرا التي تقع على بعد ثلاثة أميال من باتارا، وميرا هي اليوم دمرة التركية، وكانت في الماضي مدينة عظيمة لها ست وثلاثون أسقفية تابعة لها، وفيها سُمّي نيقولاوس أسقفاً، وصار رئيساً لأساقفتها. ذاع اسم هذا القديس منذ القرن السادس، غير أن أخباره لم تنتشر إلا في مرحلة لاحقة. في منتصف القرن التاسع، دوّن عنه بطريرك القسطنطينية ميثوديوس سيرة مختصرة، وفي مطلع القرن العاشر، استعاد القديس سمعان المترجم هذه السيرة بشكل موسّع. بعدها، نُقلت هذه السيرة إلى اللاتينية، وحوت فصولاً جديدة، وشكّلت أساساً لسلسلة من طويلة من الروايات تشكّلت عبر العصور المتلاحقة.

رحل نيقولاوس عن هذه الدنيا في ميرا حوالي منتصف القرن الرابع الميلادي، واستراحت رفاته في الكنيسة الأسقفية. بعدها شُيّدت كنيسة على اسمه في القرن السادس، وحوت ضريحا ضمّ جثمانه، وجذب هذا الضريح الحجّاج من سائر أنحاء العالم المسيحي المتعدّد الأقاليم. توسّعت هذه الكنيسة في القرن الثامن، وتعرّضت للخراب في مطلع القرن الحادي عشر، ثم جرى ترميمها وتزيينها بحلّة جديدة في عهد الإمبراطور قسطنطين التاسع. في هذه الحقبة، دهم الموضع تجار من مدينة باري الإيطالية في 1087، واستولوا على رفات القديس وسط احتجاج رهبان كان يقومون بخدمة المحجّة، وعادوا بها إلى مدينتهم حيث شيّدوا كنيسة على اسم القديس، وأودعوا فيها الرفات التي استولوا عليها. من هذه الرفات، استولى فرسان من دوقية لورين الفرنسية على ابهام قدم، ونقلوه إلى مدينتهم، وهكذا أضحى لنيقولاوس محجة أولى في ميرا، ومحجة ثانية في باري، ومحجة ثالثة في لورين.

 

حامي الأطفال

اعتمدت الكنائس الشرقية والغربية يوم السادس من كانون الأول للاحتفال بذكر القديس نيقولاوس، وتحوّل هذا اليوم في الغرب إلى يوم احتفالي خاص بالأطفال، قبل ظهور بابا نويل بزمن طويل، كما تشهد مئات الصور التقوية التي يظهر فيها نيقولاوس بثيابه الأسقفية التقليدية حاملاً الهدايا إلى الأطفال، ويغلب على هذه الحلة اللونان الأحمر والأبيض، وهما اللونان الخاصان برتبة الكاردينال. تحت اسم القديس نيقولاوس، تشكّلت قصة الشيخ الآتي على عربة تجرها أيائل الرنة فوق الثلوج، قبل أن يتخذ هذا الشيخ في العالم الأميركي اسم "سانتا كلاوس"، وهو الاسم المحوّر لاسم "سنتر كلاس" الهولندي، وهذا الاسم ما هو إلا اسم سانت نيقولاس باللفظ الهولندي، وهو الاسم الذي حمله المهاجرون الهولنديون معهم إلى أميركا حيث أسّسوا "نيو أمستردام"، أمستردام الجديدة، التي تحوّلت إلى نيويورك في 1664.

وُلدت قصة هذا الشيخ في قصيدة طويلة غير موقعة نُشرت عام 1823 تحت عنوان "زيارة القديس نيقولاس"، ونُسبت إلى كليمنت كلارك مور، الكاتب والشاعر المختص في الأدب اليوناني والمشرقي، والقسيس في الكنيسة الأسقفية الأميركية. في 1857، أعيد نشر هذه القصيدة مع رسم طباعي يظهر فيه القديس في اللباس الذي يُعرف اليوم بلباس بابا نويل. وفي 1861، استلهم الرسام الكاريكاتوري توماس ناست هذه الشخصية، ووضع سلسلة من الرسوم ساهمت في تكوين صورة سانتا كلاوس الذي عُرف في العالم البريطاني باسم "فازر كريسمس"، أي "بابا الميلاد". شاع هذا الاسم في العالم البروتستانتي الذي لا يعترف بالقديسين ولا بشفاعتهم، وحجب بعد بضعة عقود من الزمن اسم القديس نيقولاوس في سائر أنحاء العالم الغربي. على سبيل المثال لا الحصر، وصل بابا الميلاد إلى فرنسا إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعُرف هناك باسم بابا نويل، وتحوّل هذا الاسم إلى نويل بابا في تركيا بعد بضع سنوات.

قبل وصول بابا نويل إلى الشرق المسيحي، تطلّعت الإمبراطورية روسيا باتجاه ميرا، وشرعت بترميم كنيسة القديس نيقولاوس في عام 1863، في عهد القيصر إسكندر الثاني، والمعروف أن روسيا منذ اعتناقها المسيحية تعلّقت بقدّيس ميرا، وعملت على اكرامه وتمجيده، وجعلت منه شفيع الأراضي الروسية قاطبة، فصار القديس الأحب والأكثر شهرة في أقاليمها. أعادت روسيا الاعتبار إلى محجة القديس في مدينة دمرة، غير أن هذه العناية لم تدم طويلا، بسبب اشتداد الحرب بين الروس والأتراك، ودخول الإمبراطورية العثمانية في المرحلة الأخيرة من عمرها. في المقابل، مع نشوء الجمهورية التركية ودخولها في حرب طاحنة مع اليونانيين، أُفرغت آسيا الصغرى من المسيحيين بشكل شبه كامل، وباتت دمرة مدينة أناضولية فحسب.


من المفارقات، ذاع صيت بابا الميلاد عالمياً في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية كما أشرنا، واكتشفت الدولة التركية أن "نويل بابا" هو في الواقع مواطن من الأناضول، فعملت على اصدار طابع يحمل صورته في 1955، وبدأت باستكشاف ميراثه في مدينته الأصلية، ميرا التي صار اسمها دمرة.


كنيسة ومتحف وأنصاب

بعد مرور قرن من الزمن على قيام البعثة الروسية بترميم كنيسته القديمة في هذه المدينة، استأنف الأتراك أعمال ترميم هذا الموقع، واكتشفوا خلال قيامهم بهذه الأعمال الناووس الذي حوى قديما جثمان القديس قبل أن يُستولى عليه، وجذب هذا الاكتشاف الحجاج المسيحيين الذين عادوا إلى التوافد إلى ميرا كما في الماضي. تواصلت هذه الأعمال في الثمانينات، وتحوّلت دمرة إلى مدينة سياحية، واستمرّت السلطة التركية في العمل على ابراز معالمها الأثرية بشكل دؤوب منذ تلك الحقبة إلى يومنا هذا. هكذا أنشأت وزارة الثقافة والسياحة في تركيا مؤتمرا خاصا ببابا الميلاد عُقد في دمرة في 1983، بالتزامن مع احتفال العالم المسيحي بالقديس نيقولاوس في 6 كانون الأول، وتحوّل هذا المؤتمر إلى تقليد سنوي منذ ذلك الحين. بعدها، أنشأت الوزارة التركية في 1991 مؤسسة تحمل اسم سانتا كلاوس، مهمّته نشر دعائم السلام والصداقة والأخوة كما قيل. في 2008، تحول اسم كنيسة "عزيز نيقولاس" رسميّا إلى "متحف نويل بابا"، وفي 2013، مع حلول عيد الميلاد، في ظل حكم "العثمانيين الجدد"، خرجت الدولة التركية بخطاب إعلامي تطالب فيه باستعادة رفات القديس لنقلها إلى موقعها الأصلي كإرث "قومي" أناضولي.

تجدر الإشارة هنا أنه في مطلع القرن الحادي والعشرين، أهدت الدولة الروسية مدينة دمرة تمثالا برونزيا يمثل القديس نيقولاوس في حلّته الأسقفيّة التقليدية، ورُفع هذا النصب في وسط المدينة. كذلك، حلّ في دمرة تمثالان آخران من البرونز يمثلان القديس برفقة عدد من الأطفال، في هيئة تقارب هيئة نويل بابا. في 2005، مع حلول الميلاد، استبدلّت بلديّة دمرة تمثال القديس نيقولاوس البرونزي بتمثال بلاستيكي فاقع يمثّل سانتا كلاوس في هيئته الأميركية الصرفة، فاحتجّت السلطة الروسية، مما دفع البلدية إلى إعادة نصب التمثال البرونزي في ركن آخر من المدينة.

في الخلاصة، عاد اسم نيقولاوس إلى ميرا بفضل بابا الميلاد بالدرجة الأولى، وبات لهذا القديس الجليل تماثيل حديثة العهد تمثّل تحوّله التدريجي من "عزيز نيقولاس" إلى "نويل بابا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها