الأربعاء 2022/11/09

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

هرقل.. ثمرة غرام زيوس وتفاحة هيرا المسروقة

الأربعاء 2022/11/09
increase حجم الخط decrease
سلّطت وسائل الإعلام مؤخّراً الضوء على فسيفساء مكتشفة حديثاً في محافظة حمص تمثلّ حرب الأمازونيات، ووصفتها بأنها "استثنائية على مستوى العالم". من حمص كذلك، خرجت بالأمس القريب فسيفساء استثنائية أخرى دخلت "بصمت" في مطلع تسعينات القرن الماضي إلى متحف معرة النعمان حيث أطلق عليها اسم "فسيفساء هرقل".  

تم اكتشاف "فسيفساء هرقل" في العام 1989 أثناء القيام ببعض الأعمال الإصلاحية في حي الأربعين في حمص القديمة، وتُظهر الصور التي التقطت لها حينها أنها تعرّضت جزئياً للتلف، وأن ما نُقل منها إلى متحف معرة النعمان يشكّل قسماً منها فحسب. تشكّل الأجزاء المتبقية من هذه الأرضية مساحة تقدّر بـ21 متراً مربّعاً، وتُظهر تأليفاً يتبع بشكل كبير النسق الروماني الكلاسيكي. يجمع هذا التأليف بين أُطر تزيينية منجزة بعناية بالغة، تُحيط بأربعة ألواح كبيرة يحوي كلّ منها فصلاً مختاراً من فصول سيرة هرقل الطويلة. تعتمد هذه الأطر عناصر تشكيلية تصويرية قوامها سلسلة نباتية طويلة من أوراق الأقنثا تمتدّ أفقياً، وتشكّل عقداً هندسياً متجانساً. تؤلف أوراق الأقنثا الملتفة دائرياً حلقات متجانسة تحوي مجموعة من الأطفال العراة المنهمكين في صيد الحيوانات الكاسرة، وفقاً لأسلوب روماني مكرّس تعود جذوره إلى الحضارة اليونانية الكلاسيكية.

بطل في المهد
تتفاوت الألواح الأربعة في الحجم، والمؤسف أن أياً منها لم يصلنا بشكل كامل. اللوح الأول مربّع، ويجمع بين امرأتين من جهة، يقابلهما رجل من الجهة المقابلة، ويرافق الرجل طفل مجنّح ينظر باتجاه المرأتين، هو إيروس، إله الحب والرغبة المشتعلة. تحمل اللوحة كتابات تتألف من اسمين تسمح بتحديد موضوع اللوحة. المرأة التي تنظر باتجاه الطفل هي ألكميني كما يقول بوضوح الاسم المدوّن، والمرأة التي تقابلها ليست شخصية آدمية، فاسمها الذي يرافقها يقول إنها "الجهل"، ممّا يعني أنها تجسّد هذه الحالة، وفقاً للتقليد الفني الروماني الذي يعتمد على تشخيص الحالات والصفات والمزايا، كما على تشخيص المدن والأنهر.

بحسب السيرة المتناقلة التي اختلفت تفاصيلها بين رواية وأخرى على مرّ العصور، كانت ألكميني ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، وزوجة أمفيتيريون، ابن ألكايوس ملك مدينة تيرنس. هام سيد الآلهة زيوس بألكميني، فتجسّد على هيئة زوجها، وقام بمعاشرتها على مدى ليالٍ ثلاث، فأنجبت منه هيراكليس الذي عُرف لاحقاً باسم هرقل، ومعنى اسمه "قوّة هيرا". وهيرا هي أشهر زوجات زيوس، وهي من كبار الآلهة، وقد عُرفت بغيرتها وبأسها، وقد صبّت هذه الغيرة على هرقل طوال مسيرته. تُصوّر اللوحة لقاء ألكميني بزيوس منتحلاً صورة زوجها أمفيتيريون، ويجسّد فيها ايروس عشق سيّد الآلهة لها، بينما ترمز المرأة التي تقف إلى جانبها حالة "الجهل" التي عاشت فيها ألكميني خلال هذا اللقاء الطويل، حيث جامعت سيّد الآلهة وهي تظنّ أنه زوجها أمفيتيريون.

اللوح الثاني من الحجم المستطيل، ويشكّل تكملة للوح الأول، وفيه يظهر في الوسط طفلان في حوض دائري بين امرأة ورجل من جهة، ورجل وامرأتين من الجهة المقابلة. ترافق هذه الأشخاص كتابات تسمح بتحديد هوياتها بشكل لا لُبس فيه. في الوسط يظهر هرقل طفلاً وهو يُمسك بكل يد أفعى ملتوية، ويظهر إلى جانبه أخيه غير الشقيق إيفيكليس. من جهة اليسار، يظهر أمفيتيريون شاهراً سلاحه، وتظهر إلى جانبه زوجته وهي تنحني لتُمسك بطفليهما إيفيكليس. ومن جهة اليمين، يظهر ثلاثة من الخدم كما تقول الكتابة، وهو يهبّون لمدّ يد العون إلى سيديّهما. بحسب الرواية المتناقلة، ظهرت قوّة هيراكليس وهو في المهد، وقبل ان يبلغ سنّ الفطام، وتجلّى ذلك حين أرسلت هيرا حيّتين هائلتين إلى بيت ذويه للقضاء عليه، فاندفعتا نحوه بينما كان أخوه إيفيكليس إلى جواره. صرخ الطفل إيفيكليس مذعوراً، فهرولت ألكميني لنجدته، وهبّ زوجها أمفيتيريون متقلداً سيفه ليفتك بالحيّتين، غير أن هرقل سبقه، وتمكّن من خنقهما بيديه الصغيرتين.

في الحديقة شجرات التفاح الذهب
نصل إلى اللوح الثالث، وهو كذلك من الحجم المستطيل، وقد تُلف جزء كبير منه. تمثّل هذه اللوحة ما يُعرف بالجولة الحادية عشرة من أعمال هرقل الاثني عشر، وفيها يظهر البطل الجبار وهو يقضي على حية كبيرة تلتف حول شجرة تفاح مورقة، بحضور شيخ يتمدّد أرضاً، وهو بحسب الكتابة المرافقة أوقيانوس، أي المحيط، إله البحار. يختزل هذا المشهد رواية طويلة تناقلها الرواة على مدى العصور، واستعادها المصوّرون بأشكال مختلفة في الحقبتين اليونانية والرومانية. عنوان هذه الرواية "هرقل في حديقة الهسبيريديات"، وهذه الحديقة هي حديقة هيرا، عدوّة هرقل الأولى. تقول الروايات إن هيرا أُهديت عند زفافها بزيوس شجرة تفاح تثمر ثمرات من الذهب، فسرّت بها سروراً عظيماً، وغرستها في حديقتها المقدّسة التي تقع بالقرب من صخور جبل أطلس، على الشاطئ الغربي للمحيط الأطلنطي، وعهدت برعاية هذه الشجرة إلى بنات الإله أطلس، وهنّ الهسبيريديات، كما أوكلت حراستها إلى أفعوان رهيب يُدعى لادون. بعد رحلة طويلة مليئة بالصعاب، نجح هرقل في الوصول إلى حديقة الهسبيريديات، وقضى على الأفعوان لادون، وعاد ظافراً، حاملاً معه التفاح الذهبي الذي جاء به من هذه الحديقة.

تختزل اللوحة هذه القصة، وتصوّر هرقل وهو يقضي على الأفعوان الملتفّ حول شجرة التفاح الذهبي، في حضور أوقيانوس الذي يرمز هنا على الأرجح إلى الموقع الجغرافي لحديقة الهسبيريديات.

على قمة جبل أولمبيوس  
يشابه اللوح الرابع في الحجم، اللوح الأول، وفيه يظهر هرقل متوجّاً بإكليل الغار في الوسط، ماداً يده اليمنى باتجاه رجل بجلس على عرش ملكي، بينما تظهر خلفه امرأة تحمل مشعلاً، وتجسّد هذه المرأة القيامة، كما تقول الكتابة التي تعلو هامتها. يصوّر هذا المشهد ختام مسيرة هرقل، وصعوده إلى قمة جبل أولمبيوس، بعدما ملأ الدنيا ببطولاته، قضى البطل على محرقة، وبعدما احترق جسد الفاني، صعد بالروح على قمة جبل أولمبيوس حيث أصبح خالدا بين كبار الآلهة الخالدين. هناك، أعلن زيوس أمام الجميع أن على كل إله أن يرحب بابنه، واستسمح هيرا ان تقبل به، ففعلت، ووجد البطل الذي حمل اسم "قوّة هيرا" مكانه الأخير في جبل أولمبيوس، موطن الآلهة الأثير. تختزل اللوحة هذا النهاية، وتصوّر زيوس مستقبلاً على عرشه ابنه هرقل، بحضور المرأة التي تجسّد قيامة البطل من موته الأرضي.

في الخلاصة، تتميّز هذه الأرضية الفسيفسائية الرومانية الحمصيّة بأسلوبها الكلاسيكي المتقن الذي دفع أهل الاختصاص إلى القول بأنها تعود إلى القرن الميلادي الثالث، كما تتميّز بموضوعها وبصياغتها التأليفية التي تجعل منها أثراً فريداً من نوعه في سوريا، كما في العالم الروماني الممتدّ شرقا وغرباً، عند ضفتّي البحر الأبيض المتوسط.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها