الأربعاء 2022/11/30

آخر تحديث: 11:27 (بيروت)

لورا واندل لـ"المدن":تجربة الملعب تؤثر في الشخص الذي ستصبحه

الأربعاء 2022/11/30
increase حجم الخط decrease
نورا، في يومها الأول بالمدرسة الابتدائية، تتشبث يائسة بساق والدها عند زواية فناء المدرسة. لا تريد مغادرته والانفصال عنه، لكنه يبعدها صوب مدرستها، بمحبة حازمة، فتتعلّق بشقيقها الأكبر آبيل، الذي يكبرها بعامٍ. لكنه هو الآخر سينفصل عنها، مبتعداً نحو صفّه. يتعيّن على نورا أن تتعامل بمفردها مع أول أيامها في ذلك العالم الجديد.

تماماً كما فعلت الألمانية ماريا سبيث في فيلمها الوثائقي الرائع "السيد باخمان وفصله"، تقدّم المخرجة البلجيكية لورا واندل (1984)، في باكورتها "عالم"(*)، المدرسة باعتبارها نموذجاً مصغراً للمجتمع والعالم. غير أن التناغم المتدفق بسلاسة وحرية في فيلم المخرجة الألمانية سيتعيّن للحصول عليه في عمل زميلتها البلجيكية مزيداً من الجهد والمشقة.

إدماج نورا في مجتمع المدرسة المصغّر سيجري بسلاسة، لكن المشكلة تكمن عند شقيقها المغروس في ورطة. يصبح هدفاً لمجموعة من المتنمّرين الأكبر سناً. في الفناء أثناء الفُسحة المدرسية، تشهد نورا مراراً وتكراراً ما يحدث له، لكنه يتوسّل إليها ألا تقول أي شيء لوالدهما. وفقاً له، "هذا من شأنه أن يزيد الأمر سوءاً". تبدو المدرسة عالماً قاسياً ومخيفاً، وفناؤها ساحة حرب بين صغارٍ يحملون أكثر المشاعر براءة مثلما أشدّ الأفعال قسوة.

عندما تشهد نورا البلطجة التي يعانيها شقيقها، فإن غريزتها هي حمايته، لكن في مكانٍ يملك قواعده الخاصة ومنطقة محددة جيداً، تسوء الأمور أكثر. عالقة في صراع بين الولاء لأخيها وتشجيعه على المواجهة من ناحية، والخوف من حدوث نبذ وإقصاء مشابه لها من ناحية أخرى؛ ستضطر نورا إلى إيجاد مكانها ممزّقةً بين عالم الأطفال والكبار.

لسبع سنوات، عملت كاتبة السيناريو والمخرجة لورا واندل على فيلمها الطويل الأول، خمس سنوات لكتابته وسنتين لإنجازه. لم ترد التقيّد بجدول زمني، لأنه "ليس الوقت وإنما الفيلم نفسه هو المهم. إذا كانت سبع أو عشر سنوات ضرورية، فليكن. نعم، الحياة قصيرة، لكنني أفضّل إنجاز فيلمين جيدين بدلاً من عشرة أفلام ليست كذلك"، كما تقول.

"عالم" فيلم رقيق عن التنمّر في المدرسة، حصل على جائزة فيبريسي في مهرجان "كانّ" السينمائي 2021، ومثّل بلجيكا في سباق الأوسكار الذي وصل فيه إلى اللائحة الطويلة لجائزة أفضل فيلم دولي.

"المدن" تحدّثت مع المخرجة عن فيلمها وعالمه.


- كيف بدأت فكرة الفيلم؟

* إذا نظرت ملياً، يمكنك رؤية تراجيديات كبيرة وصغيرة تحدث في المدارس يومياً. انطلقت من تجربتي الخاصة، لكنني أيضاً استخلصت من ملاحظاتي في المدارس الابتدائية التي زرتها على مدار أشهر. كنت أعرف منذ البداية أن الأمر يتعلّق باستكشاف دورنا في ما يتعلّق بالآخرين، بالحاجة إلى التكامل ومراحله.
أردت أيضاً التطرق إلى فكرة الأخوّة داخل هذا المجتمع وعملية الاندماج. أؤمن بفكرة أنه، كي يحدث تكامل، علينا الاستسلام للكتلة البشرية التي تحيط بنا ولتصاميمها. هذا الموضوع يشبه خيطاً أحمر طوال حياتنا: كإنسان تريد أن تُرى، لتمييز مكانك، لتنتمي إلى شيء ما. المدرسة الابتدائية هي المكان الذي يمكنك من خلاله التعرّف على هذه الآليات للمرة الأولى في حياتك.
أخذتُ الوقت الكافي للرصد والملاحظة في المدارس، والتحدث إلى المعلمين ومديري المدارس وأولياء الأمور والأطفال لأنني أردت أن أبدأ من الواقع لهذه القصة الروائية. الأطفال في الواقع يتعلّمون باستمرار، مجبرون على التعلُّم، حتى عندما يلعبون. في هذه الأثناء، يظهر أمامهم عالم مصغّر جديد. التنمُّر بين الصغار جانب محدِّد لهذا العالم، ولا يتأثر بمرور الزمن. بفضل القوة التعاطفية للسينما، يمكنني توضيح ذلك.

- من اللافت أن فناء المدرسة وليس الفصل الدراسي ما يحتلّ صدارة تركيزك.

* كما قلت، يتعلّم الأطفال كثيراً في الملعب. بالطبع، يُعد تعلم القراءة والكتابة والرياضيات في الفصل الدراسي أمراً ذا قيمة، لكن التعلّم الاجتماعي أكثر أهمية. يحدث ذلك أثناء اللعب وأثناء التفاعل في غياب البالغين. تؤثّر تجربة الملعب هذه في الشخص الذي ستصبحه. غالباً ما يبدأ سلوك التنمر من الخوف من الاستبعاد. إنه ينطوي على مشكلة الدمج والحاجة إلى الاعتراف. لكننا جميعاً نأخذ شوطاً طويلاً ليتمّ الاعتراف بنا وإدراجنا في مجموعة. ترتبط كل النزاعات العالمية بهذا. مشاكل المدرسة مرآة لذلك.

- نتابع قصة نورا ونظراً لأن الكاميرا في مستوى عينها وأنتِ تركّزين على ردود أفعالها، نشاركها شعورها حين تتعرّض للتنمّر، كما يظهر أمامنا عالم ضخم ورهاب معين من الأماكن المغلقة...

* عبر اتخاذ وجهة نظر نورا الشخصية وإشراك المُشاهد في الحدث، أردت تشجيعه على الغوص في ذكرياته الخاصة والتفكير في ما شعر به أثناء فترة دراسته. استغرب أن يقول الناس إنهم نسوا تجاربهم المدرسية. لقد قضينا هناك 12 سنة على الأقل، ثماني ساعات في اليوم، بين جدران المدرسة، أليس كذلك؟ هذه تجربة متأصّلة بعمق وشكّلتنا بشكل أو بآخر.
أردت، قبل كل شيء، أن أغمر المُشاهد في هذا العالم، لتحويله إلى الطفل الذي يراه. كان من المُلحّ بالنسبة لي أن أبقي نفسي دائماً في نظرة تلك الفتاة. عندما نكون أطفالاً، ننظر إلى الأشياء بشكل مختلف. يعود الكثير منا بالفعل إلى هذه الأماكن كبالغين ويبدو كل شيء صغيراً بالنسبة لنا، لكن في ذلك الوقت كان كل شيء ضخماً. كان من المهم جداً بالنسبة اليّ أن أجعل المتفرج يشارك في الأحداث، وأن يعيد تكوين كل ما يحدث حوله من خلال الطفل. الطفل هو الذي يقود المشهد.
هذا هو الغرض من أسلوب الفيلم الغامر، لإظهار حقيقة التنمّر عندما يختبره الطفل كشاهد أو ضحية. أردت أيضاً أن ألعب بما يحدث خارج الشاشة، أبقي النقاط المرجعية غامضة لأنه حتى الأخت لا ترى بوضوح ما يحدث لأخيها تماماً. وفي نفس الوقت أتمنى أن يستحضر المُشاهد بهذه الطريقة ذكرياته الخاصة في هذه القصة.

- وكيف كان بحثك عن الانغماس في هذا العالم؟

* قبل كل شيء، لاحظت، على وجه الخصوص، جلسات التوسّط في النزاعات بين الأطفال. لم أتحدث كثيراً مع أطباء نفسيين، رغم أنني اتصلت بأخصائي في بلدي. كانت الوساطات التي استطعت الوصول إليها ممتعة للغاية، خصوصاً في ما يتعلق بفهرسة الشباب وآليات التنمّر، أي الجاني والضحية. ما لاحظته هو أن أي شخص من الشباب يجب أن يمرّ عبر هذه الحالات المختلفة لفهم ما يشعر به الآخر والتعاطف معه.

- عادة ما يُهمَل البالغين، لا سيما في اللحظات الحاسمة، خارج الصورة..

* بصفتي صانعة أفلام، لا أريد إصدار أحكام. يرى المشرفون والمعلمون الأشياء، ويحاولون القيام بشيء ما، لكنهم مرتبكون. بعد كل شيء، هناك العديد من الأطفال والمشاكل، وعادة ما يكون الوضع فوضوياً وغالباً ما يرون فقط جزء من حادثة. في بعض الأحيان تتضمن أيضاً مجموعة متشابكة من الإجراءات وردود الفعل التي يصعب حلّها. يتعيّن على المشاهدين أخذ ذلك في الاعتبار في حكمهم. وفي الوقت نفسه، التنمر الذي قد نشهده في المدرسة يشكّلنا أيضاّ. من الصعوبات، نتعلم الكثير. تمرّ نورا بسلسلة من المحن لكنها في النهاية تمكّنت من أداء عمل يوقف العنف.

- أحد الجوانب الشيقة لفيلمك هو الطريقة التي يقدم بها عالماً بمجموعة جديدة كاملة من القواعد. الآباء لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة، نورا لا تستطيع تناول الغداء مع شقيقها في المقصف، وما إلى ذلك. هل كنت تنوين إظهار المدرسة كمنطقة خاصة بها بقواعدها وقوانينها الخاصة؟

* بالضبط. هناك شعور كبير بالأقلمة والرغبة في إقامة حدود. أساس الفيلم كان بلجيكا، لكنني أعتقد أن هذا هو الحال في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، عادةً ما يُلقى بالأطفال الذين لا يلعبون الكرة إلى هوامش تلك المنطقة. بطريقة ما هو نوع من العنف ويقول شيئاً عن مجتمعنا. تبدأ مسألة الأقلمة هذه في المدرسة، وهي ترسم صورة موازية للعالم الذي نعيش فيه.

- في فيلمك هناك طيف فيلم حربي، وأيضاً فيلم رعب نفسي. في كل لحظة نشعر أن شيئاً فظيعاً سيحدث. كيف أنشأتِ هذه البيئة، أي هل كانت شيئاً مفصّلاً بالفعل في النصّ أم ظهرت بشكل أكبر في المونتاج؟

* غالباً ما يتحدث الناس عن أفلام الإثارة والرعب، لكن الحقيقة هي أنني لم أفكر مطلقاً في فيلمي بهذه المصطلحات. ومع ذلك، أجد أنه من المثير للاهتمام للغاية أن يرى الناس الأشياء بهذه الطريقة، لأنه يعني أنني تمكّنت من إظهار - كما أردت - الألم. ولم أكن أرغب فقط في إظهار هذا الألم، لأننا عندما نكون أطفالاً يكون لدينا أيضاً الكثير من اللحظات الخفيفة والهادئة. في الطفولة، خصوصاً تلك التي نراها مصوّرة هنا، هناك قسوة، لكن هناك شِعراً أيضاً.
الفيلم تغيّر كثيراً بالطبع في المونتاج. العنوان نفسه تغيّر متأخراً، بعدما أصبح فيلماً مختلفاً تماماً عما تخيّلته في الأصل، أثقل وأكثر خطورة، لذا لم يعد العنوان الأصلي مناسباً. صوّرنا مشاهد أخفّ، لكن تبيّن أنها غير ملائمة في المونتاج. كان علينا الحفاظ على التوتر. على سبيل المثال، كانت هناك قصة كاملة حول بالون تحصل عليه نورا من والدها، والذي ينزلق بعد ذلك من يديها ويعلق في شجرة. كان مشهداً جميلاً وغنياً بالرمزية، لكنه لم يكن مناسباً.

- تجسيد وتفسير الصغيرة مايا فاندربيكي لدور نورا مثير للإعجاب. كيف وجدتها؟

* قمنا بعملية كاستينغ. لم تكن مايا قد مثَّلت من قبل، والشيء الأكثر إثارة للاهتمام - خصوصاً لأنها كانت في السابعة من العمر - أنها أخبرتني مباشرةً أنها "ستستخدم كل قوتها من أجل هذا الفيلم". لقد تأثّرت بهذه العبارة وكانت رغبتها أثناء التصوير لا تصدَّق.
ما كنت أبحث عنه في عملية الكاستينغ لم يكن تكراراً لعبارات السيناريو، بل العثور على ما يمكن للأطفال أن يجلبوه إلى الشخصيات. هذه هي قوة الكاميرا، فهي تلتقط أشياء لا نراها في المقام الأول. رأيت أشياء لا تصدّق هناك.

- من بين خياراتك اللافتة الأخرى عدم مغادرة المدرسة، نظلّ داخل تلك المساحة وحدودها. ليس لدينا سوى رابط خارجي واحد، هو والد الطفلين، الذي نعرف عنه بعض التفاصيل تقودنا إلى فهم القليل عن حياته...

* في مسألة الأبّ هذه، نعود إلى الفهرسة والتصنيف المحكوم على الناس بهما. لا نعرف الكثير عنه غير أننا ندرك أنه عاطل عن العمل. بالنسبة للأطفال، لا سيما نورا، كل شيء طبيعي، ولكن بالنسبة للآخرين، الأمر ليس كذلك. هذه الطريقة التي ينظر بها الآخرون إلى والدها ستؤثر في نظرتها إليه وتُغيّرها قليلاً. وهنا نعود أيضاً إلى موضوع الاندماج الذي يؤثّر أيضاً في الشقيق.
أحد الأشياء التي تهمّني كثيراً، حتى بالنسبة للمستقبل، هو الانتقال من المجهري micro إلى الدقيق macro، دائماً مع وجود شخصية كنقطة بداية. سيركّز فيلمي التالي مرة أخرى على صورة مصغرة للعالم، لكن هذه المرة في مستشفى.

(*) عُرض الفيلم في بيروت مؤخراً ضمن فعاليات مهرجان السينما الأوروبية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها