الجمعة 2022/10/28

آخر تحديث: 09:29 (بيروت)

بهاء طاهر.. في وداع الكاتب النبيل

الجمعة 2022/10/28
بهاء طاهر.. في وداع الكاتب النبيل
لم يبخلْ بقلمه ورؤيته حتى لو تعارضت في بعض الأحيان مع شريحة من الثوار
increase حجم الخط decrease
فَقَد الوسط الثقافي المصري والعربي، مساء أمس الخميس، الكاتب والإنسان النبيل بهاء طاهر الذي رحل عن 87 عامًا، أخلص خلالها لإبداعه فقط ونأى بنفسه عن أي نزاعات أو خلافات أو صراعات حول المناصب والمنافع والجوائز، وحفر بنقائه الإنساني مكاناً يصعب أن يشغله غيره في قلوب أصدقائه وتلاميذه وقرائه.

راكم بهاء طاهر إنجازاً روائياً كبيراً، عبر سنوات من العمل الدؤوب، وخلف أعمالا عديدة أشهرها: "نقطة النور، وخالتي صفية والدير، والحب في المنفى، وقالت ضحى، وبالأمس حلمت بك، وأنا الملك جئت، وواحة الغروب". رحلة طويلة بدأت فصولها من صعيد مصر، من قرية "الكرنك" على وجه التحديد التي تقع في حضن المعبد الشهير وتستمد منه اسمها، نشأ هناك في أسرة بسيطة "كانت متوسطة الحال ثمّ انزلقت عدة درجات" حسب وصفه في شهادته القصيرة والنادرة التي قدم بها رائعته "خالتي صفية والدير". كان والده مدرّساً للغة العربية، وكان هو أصغر إخوته التسعة، توفي والده في العام الذي دخل فيه الجامعة، وأصبحت أمه هي عالمه كله، عالم القرية الذي عشقه بكل تفاصيله، وأورثته أيضاً حبّ القصص والحكايات، لذا أهدى لها أول رواياته "شرق النخيل" يقول: "ليس فقط لأن هذه السيدة الأمية العظيمة استطاعت أن تقود سفينة حياتنا الصعبة وأن تضمنا بالحب أنا وأخوتي وتدبر معيشتنا بأقل القليل من المال حتى أنهينا تعليمنا، ولكن لأنني منها أيضاً تعلمت حبّ الحكايات وحبّ الصعيد".

ملامح
في وقت مبكر جدا وبالتحديد في الصف الرابع الابتدائي، ظهرت أول ملامح الكاتب حين نودي عليه في طابور المدرسة الصباحي، وقال ناظرها أمام جميع الطلاب أنه –بهاء- حصل وحده على الدرجة النهائية في القصة. وهي المرة الأولى التي يمنح فيها مدرس اللغة العربية هذه الدرجة لأي طالب في المدرسة، قال الناظر إنه بكى تأثراً بها ومن ثم فرضها كموضوع لدرس الإملاء على جميع فصول المدرسة لكي يستفيد منها الطلاب، كان هذا أول مجد يحصل عليه من الكتابة "وهو أيضاً – مع الأسف- آخر مجد.. فأما المتاعب والمشاكل فلا حصر لها"!



في المدرسة تعرف بهاء طاهر على عالم روايات الجيب الساحر، أرسين لوبين، وشارلوك هولمز، ورو كامبول، ومن بعدها كليلة ودمنة، وبعض قصص المنفلوطي، ومن المدرسة اكتشف طه حسين والمتنبي، وألف ليلة وليلة، وفيها أيضاً انشغل بالمظاهرات التي كانت تشتعل فجأة لأي موضوع يثار، ليس في مصر وحدها بل في العالم أيضاً: "خرجنا في مظاهرات ضد فرنسا بسبب جرائمها في تونس والجزائر، وضد انكلترا من أجل العراق، وضد الصهيونية من أجل فلسطين" كانت الوطنية ضمن المقرر، وكان المدرسين يؤنبون من يتخلفون عن أي مظاهرة.

دخل الجامعة العام 1952، وهو العام نفسه الذي قامت فيه الثورة وخلع الملك، لكن المعاناة لم تنته بالطبع، عادى الطلبة بعض افرازات الثورة كما كانوا يعادون حكومة الملك، وعانوا صراعاً داخلياً بين تأييد ما تفعله الثورة في حربها ضد الإنكليز وجهودها من أجل استقلال الوطن وكراهيتهم لقبضتها الباطشة والخانقة في لحظات أخرى "هذا المناخ من المشاعر المزدوجة والمتضاربة هو الذي بدأنا – جيلي وأنا- نكتب في ظله. ثم إننا حين تقدمنا في العمر واكتسبنا شيئا من النضج، كان الوعي بهذه الازدواجية ومحاولة الخروج منها مؤثراً رئيسياً في كتاباتنا".

يحيى حقي
لم تكن الرحلة سهلة وظروفها لم تكن ميسّرة، صحبتها منذ البداية اضطرابات سياسية معقّدة وأزمة اقتصادية طاحنه إضافة منابر أدبية تعدّ على أصابع اليد الواحدة؛ ملحق أدبي في صحيفة "المساء"، يشرف عليه الأديب عبد الفتاح الجمل، ومجلة يترأسها الكاتب الكبير يحيى حقي بعنوان "المجلة"، وبرنامج إذاعي وحيد، وحدها تلك المنابر الثلاثة كانت متاحة في مطلع الستينات للإبداع الجديد، خصوصاً لمن ظلّوا مثله خارج المؤسسة الثقافية الرسمية، كانت منابر عظيمة القدر، لكنها محدودة التأثير لأنها بعيدة أو مبعدة عن الجمهور الواسع.. تلك هي الظروف التي شهدت الظهور الأول لبهاء طاهر.

نشر أول قصصه سنة 1964 في مجلة "الكاتب" حين كان يرأس تحريرها أحمد عباس صالح، ثم نشر بعد ذلك قصصاً في "المساء" ومجلة "المجلة" وفي "صباح الخير" عندما كان المسؤول عن الجانب الثقافي فيها لويس جريس، لكنه لم يذع أياً من قصصه في البرنامج الثاني الذي كان يعمل فيه، إذ جال بخاطره أن ذلك يعتبر نوعا من استغلال النفوذ!

في ذلك الوقت مطلع الستينيات كانت تتشكّل في تلك المنابر ملامح الأدب الجديد. كانت فترة التحوّلات الثورية الكبيرة في تاريخ الوطن، المعركة ضد النظام القديم وضد الاحتلال والاستعمار والإقطاع والاستغلال، وقد ساهم الأدب –الواقعي بالتحديد- في تمهيد الأرض الفكرية لهذه التحولات الثورية، لكن فترة التغيرات الثورية الكبيرة انتهت وتحوّلت الثورة إلى نظام شديد الوطأة، فبعد فترة من عمله في الإذاعة وتقديمه برنامجاً ثقافياً تعرّف من خلاله على أهم الكتاب في ذلك الوقت كنجيب محفوظ ويوسف إدريس، وبعدما نشر قصصه خسر وظيفته بل ومُنع من الكتابة، واتّهم أنه شيوعي، يقول: "كانت التهمة تختلف من وقت إلى آخر لكي تكون مؤثرة إلى أبعد حد، ففي وقت سيطرة الاتحاد الاشتراكي والفكر التقدّمي كنا وجوديين وسلبيين، ولما انتهى الاتحاد الاشتراكي والتقدمية أصبحنا شيوعيين ومن أنصار الحكم الشمولي.. كلّ التهم كانتْ تصلح بشرط ألا نصل إلى المؤسسة وألا نصل إلى الجمهور". لكن ما أثر فيه أكثر من المنع والابعاد والتربّص، كان معرفته أنّ سلطات الأمن لم تكن هي المسؤولة عن ذلك ولكن "بعض الزملاء الأعزاء من حملة الأقلام ودعاة حرية الفكر هم الذين فعلوها"!

المعبّر الحقيقي
ورغم ذلك ظلّ مؤمناً بأنّ الأدب الجديد الذي يتشكّل على هامش المؤسسة الثقافية، هو المعبّر الحقيقي عن التغيير الذى حدث ويحدث في المجتمع. وبشكل عام كان حس الهزيمة الداخلية هو السمة الأبرز للواقع الجديد في الستينيات، إذ حظرت كل محاولة للتعبير الحر عن الذات والتحرك الفعال. كانتْ هذه سمات عامة مشتركة في الأدب الذي كان يتشكّل بعيدا من المؤسسة، ورغم ذلك، فقد كان لكل كاتب من الكتّاب الجدد حينها صوته المميز ورؤيته التي لا يشاركه فيها أحد، وهي الفكرة التي يؤكد عليها الناقد صبري حافظ حين كتب عن بهاء طاهر مشيرا إلى إنه منذ نشر قصصه الأولى في مطلع الستينيات لفت أنظار الواقع الثقافي إلى عالمه القصصي الجديد والغريب والأليف معاً، وإلى لغته الصافية الفريدة في مذاقها وإيقاعها وقدرتها على النفاذ والتعبير، وإلى بنائه المحكم المتماسك بقدرته الفائقة على إثراء القص بمستويات متعددة ومتراكبة من المعاني والدلالات.



الإحساس بالغربة أيضاً، كان سمة بارزة عند بهاء طاهر، خاصة وأنه بعد إبعاده عن مصر أوائل الثمانينيات، قضى سنوات طويلة يعمل مترجماً في الأمم المتحدة في جنيف، لكنه لم يكن أبدا بعيداً منها. يقول إنه حاول منذ خرج من مصر ألا يكون ابتعاده اغتراباً عنها، وأن كل ما كتبه في الغربة كان يقصد به على وجه التحديد مصر وما يدور فيها. يقول مثلاً إنه ضمن مجموعة "بالأمس حلمت بك"، بعض القصص التي كتبها في الستينات والسبعينات، لكن قصة العنوان وهي أول قصة يتحدّث فيها عن تجربة الغربة، كانتْ يداً ممدودة إلى مصر، كما تلمح فقرتها الأخيرة التي يقول فيها "هل كنت نائماً أم كنت مستيقظاً عندما خفق في الغرفة ذلك الجناح، وهل كان صقراً أم حلماً ذلك الذي رأيت؟ مددت يدي. كنت أسمع الحفيف ومددت يدي. انبثقت أنوار وألوان لم أر مثل جمالها وحفيف الجناحين من حولي ومددت يدي. كنت أبكي دون صوت ولا دموع ولكني مددت يدي". أما مجموعة "أنا الملك جئت" ورواية "قالت ضحى" فقد كتبتا بالكامل في جنيف، وهما عودة إلى مصر، عودة إلى تاريخها القديم وواقعها المعاصر معا للبحث عن جوهرها النقي. وهكذا أعمال بهاء طاهر كلها قد تخدع في بساطتها لكنها دائما عامرة بالدلالات والرؤى.

الانحياز للثورة
استمر بهاء طاهر على قناعته نفسها عندما اندلعت ثورة يناير 2011، فانحاز فوراً لصوت الجماهير، ولم يبخلْ بقلمه ورؤيته حتى لو تعارضت في بعض الأحيان مع شريحة من الثوار، وبعدها كان في طليعة المثقفين المعتصمين في وزارة الثقافة ضد الوزير المعين من قبل الإخوان المسلمين وقتها، وهو الموقف الذي كان الشرارة الأولى لحركة 30 يونيو 2013.

حصل بهاء طاهر على مجموعة كبيرة من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية في الأدب 1998. وجائزة جوزيبي اكيربي الإيطالية العام 2000 عن "خالتي صفية والدير". وجائزة آلزياتور الإيطالية عن "الحب في المنفى" العام 2008. والجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" عن رواية "واحة الغروب".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها