الخميس 2022/10/27

آخر تحديث: 14:59 (بيروت)

آتياً من منجم "اللغة العربية الأولى"...تمثال العلا ضيف "اللوفر"

الخميس 2022/10/27
increase حجم الخط decrease
أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا في السعودية، توقيع اتفاقية مع متحف "اللوفر" الفرنسي، لمدة خمسة أعوام، تقضي بعرض تمثال كبير يعود لحقبة تاريخية قديمة تُعرف باللحيانية، وذلك في سبيل إبراز ما لدى المملكة عموماً ومحافظة العلا بالتحديد، من إرث تاريخي وحضاري من جهة، وتجسيد الشراكة الفاعلة على الصعيد الثقافي بين المملكة وفرنسا، من جهة أخرى.

بموجب هذه الاتفاقية، انتقل التمثال اللحياني الكبير إلى أشهر متاحف فرنسا وأعرقها. وكتبت هيفاء آل مقرن، المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى اليونيسكو بهذه المناسبة: "سعدتُ بالمشاركة في حفلة تدشين اتفاق الهيئة الملكية لمحافظة العلا مع متحف اللوفر في باريس، أكبر متاحف العالم، وبدء عرض أحد التماثيل النادرة لمملكة لحيان القديمة، ضمن خطط إطلاع العالم على كنوز الإرث الحضاري العظيم للمملكة، وتعزيز أطر التعاون الثقافي المتنامي بين ين السعودية وفرنسا".

في الواقع، يحلّ هذا التمثال الكبير في اللوفر للمرة الثانية بعدما كان دخله للمرة الأولى في 2010 من خلال معرض ضخم خُصّص للتعريف بآثار المملكة العربية السعودية حمل عنوان "طرق الجزيرة العربية". من باريس، انتقل هذا المعرض تباعاً إلى متحف "كايكسا فورم" في برشلونة، ومتحف "هيرميتاج" في سانت بطرسبرغ، في متحف بيرغامون في برلين. ثم حلّ في الولايات المتحدة، وتنقّل بين متاحف "ساكلر" في واشنطن، و"متحف هيوستن للفنون الجميلة" في تكساس، و"متحف الفن الآسيوي" في سان فرانسيسكو. وتابع تجواله بعد هذه المحطات الأميركية، وانتقل إلى المتحف الوطني في العاصمة الصينية بكين، ليبدأ تجواله في آسيا. ساهم هذا المعرض المتجوّل بالتعريف بتاريخ الجزيرة العربية وبإرثها الفني الذي بدأ يخرج إلى النور في العقود الأخيرة، بفعل السياسة الجديدة التي انتهجتها المملكة السعودية.

يتكوّن التمثال اللحياني الذي يحلّ اليوم في اللوفر، من حجر رملي يبلغ وزنه أكثر من 800 كيلوغرام، ويتجاوزُ طوله المترين، ويعود إلى حقبة تمتد من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد بحسب المتخصصيّن. وهو واحد من مجموعة تماثيل تحمل نسقاً جامعاً في التأليف والصياغة، وتجسّد ما بات يُعرف اليوم بالأسلوب اللحياني. خرجت هذه التماثيل من موقع أثري يحاذي جبل دادان في نواحي مدينة العلا، كشفت عنه أعمال التنقيب المتواصلة منذ سنوات.

وأظهرت هذه الأعمال أن الموقع يعود إلى مدينة مندثرة أنشئت قديماً على مسار الطريق التجاري للجزيرة العربية، وهذه المدينة كانت معروفة في نهاية الحقبة العباسي، إذ ذكرها ياقوت الحموي "معجم البلدان" باسم ديدان، وكتب في تعريفه المختصر بها: "مدينة حسنة كانت في طريق البلقاء من الحجاز، خربت". بعد خرابها، ضاع اسم هذه المدينة مع الزمن، وباتت تعُرف محلياً بـ"الخريبة"، إلى أن كشف عنها علماء الآثار. وتبّين أنّ "الخريبة" كانت عاصمة لمملكة ديدان التي نشأت في القرن السادس قبل الميلاد، ثم أصبحت هذه العاصمة حاضرة لمملكة حملت اسم لحيان، وبقيت حيّة إلى أن سقطت في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد. في الخلاصة، على مدى خمسة قرون من الزمن، احتلت هذه المدينة موقعاً جغرافياً طوله كيلومتر وعرضه أربعمئة متر، وشملت هذه المساحة دوراً سكنية ومعابد ومقابر منحوتة في سفح جبل دادان.

شكّلت الكتابات المنقوشة المكتشفة في هذا الموقع منجماً لدراسة التطوّر اللغوي في جزيرة العرب. وتعود هذه الكتابات إلى فترات زمنية متلاحقة، وتعتمد خطوطاً متعدّدة الأنواع، فمنها الخط الداداني، ومنها اللحياني، ومنها المعينية، وهذه الخطوط كلها تشكّل فروعاً ممّا يُعرف باللغة العربية الأولى. والخط الداداني هو الخط الخاصة بمملكة ديديان، والخط اللحياني هو الخط الخاص بقبيلة لحيان التي بسطت نفوذها على هذه المملكة من القرن الخامس قبل الميلاد حتى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، أمّا الخط المعيني، فهو الخط الخاص بدولة معين التي سيطرت على إدارة التجارة، وتركت للحيانيين إدارة المملكة وتنظيم شؤون الحكم فيها، إلى أن تقهقرت في مطلع القرن الميلادي الأوّل.

وسمحت هذه النقوش بالتعرّف على أسماء عدد كبير من الملوك الديديانيين واللحيانيين، وكشفت اللقى الأثرية المتعدّدة عن الهوية الثقافية التي سادت في ظل حكم هذه السلالات، وبات للجزيرة العربية تاريخ قديم تتحدّد ملامحه اليوم مع استمرار أعمال التنقيب والدراسة والتحليل. اللقى الفنية التي تعود إلى هذه البقعة الجغرافية عديدة، وأبرزها بلا شك هذه التماثيل الآدمية التي تعود إلى زمن مملكة لحيان، وهي أنصاب تُبهر بأحجامها الكبيرة، تُجسّد قامات منتصبة بثبات، وتمثّل ملوك وكهنة هذه المملكة على الأرجح، غير أن تحديد هوية كلّ منها يبدو مستحيلاً، نظراً لغياب أي كتابة تشكّل سنداً لمثل هذا التعريف.

تعتمد هذه التماثيل أسلوباً يعكس أثر النحت المصري بشكل لا لبس فيه. ويبدو أن هذه الأسلوب النحتي دخل مناطق أخرى من هذه البلاد، كما تشهد مجموعة أخرى من التماثيل خرجت من واحة تيماء في الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب. للأسف، لم تصل هذه التماثيل بشكل كامل، إذ ضاعت رؤوسها، ولعلنا نقع على رأس وجه ملكي من واحة تيماء وصل من دون جسده، وهو من نتاج الحقبة الممتدة بين القرن الرابع والقرن الثاني قبل الميلاد. تمثّل هذه التماثيل النسق العربي للنحت المصري، تماماً كما تمثّل التماثيل التي تُعرف باسم "كوروس"، أي "شاب"، النسق اليوناني لهذا النحت. وقد راج هذا النسق بين النصف الثاني للقرن السابع ومطلع القرن الخامس قبل الميلاد، وتجلّى في قامات منتصبة بثبات، تمثل شبانا مرداً.

يظهر الطراز العربي بشكل دائم عاري الصدر، غير أنه يرتدي دائماً ثوباً سفلياً ينسدل من أعلى السرة إلى الركبتين، بخلاف الطراز الإغريقي الذي لا يرتدي أي لباس. في الحالتين، يبقى الطابع المصري حاضراً بقوّة، ويتجلّى في الأسلوب المعتمد في التجسيم وإبراز مفاصل الجسد الثابت أبداً في انتصابه المهيب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها