السبت 2022/10/22

آخر تحديث: 16:03 (بيروت)

روايات الفانتازيا العلمية: خيال خلّاق.. خيال مُخرّب

السبت 2022/10/22
روايات الفانتازيا العلمية: خيال خلّاق.. خيال مُخرّب
من رسوم هيلاري كلارك التي رافقت رواية "المادة السوداء"
increase حجم الخط decrease
تحدّث ويليامز كارلوس ويليامز، الشاعر الأميركي المجدِّد، عن ذكاء المخيّلة. المخيلة التي تستعمل ذكاءها في التنبؤ. لا يبدو هذا التوصيف مجرّد مجاز. فالتطوّر الذي وصلنا إليه، قام في جزء كبير منه على قدرتنا على التخيّل.

حتى إذا خرجنا من الذاتي إلى الموضوعي، من الميثولوجي إلى العلمي، لا نستطيع فهم ما وصلنا إليه حضارياً بعيداً من الدور القيادي للخيال البشري. تخيّل الإنسان البدائي الأدوات الحجرية قبل صنعها. حتى في نشوء النظريات العلمية ومعادلاتها، يبدأ كل شيء في مخيّلة العالِم وحدسه، قبل أن تُثبَتْ الفكرة الخيالية بالتجربة العلمية. هكذا استطعنا، بفضل خيال أينشتاين، اكتشاف الثقوب السوداء.

بعد ظهور اللغة، لم تكن سوى مسألة وقت قبل أن يسعى الإنسان لكتابة خيالاته. فظهرت الملاحم الأدبية الميثولوجية الأولى، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الخيال البشري عن إنتاج الإبداعات الأدبية، وأحد مظاهرها الحديثة، الرواية كما نعرفها في شكلها الحالي.

لا تستغني الرواية، بأنواعها كافة، عن خيال الكاتب. لكن، إذا أردنا تصنيف الإنتاج الروائي في درجات، بحسب الجرعة الخيالية التي تُساهم في صنع النص، تقف روايات الفانتازيا والخيال العلمي في مقدمة هذا التصنيف. رواية الخيال العلمي (والتي ليس من السهل دائماً رؤية الحدود التي تفصلها عن روايات الفانتازيا) تشكل حالة منفردة. بالتعريف النقدي، رواية الخيال العلمي هي تلك التي تعتمد الحكاية فيها على خيال مقترن بالاكتشافات والنظريات العلمية، في إطار زمني لا يتقيّد بالحاضر، بل غالباً ما يذهب إلى مستقبل قريب أو بعيد. 


(ماري شيلي)

دراسات التاريخ الأدبي تتباين في تحديد جذور قصص الخيال العلمي. البعض يُرجعها إلى الكتابات الأولى للأساطير السومرية واليونانية. إلى حكايات ألف ليلة وليلة. إلى الكتابات الأدبية لعالم الرياضيات والفلك يوهانس كيبلر (1571-1630)، أو إلى رواية "فرانكشتاين" (1818) لماري شيلي، كأول رواية خيال علمي. ربّما المنشأ الأوضح هو ذلك التقاطع الذي حصل بين بدايات الثورة العلمية، وظهور الرواية كجنس أدبي منفصل في القرنين السادس والسابع عشر. وإن لم يكن السرد الخيالي العلمي مثيراً في بداياته، فالشعبية التي بدأت تكتسبها رواية الخيال العلمي خلال السنوات المئة الأخيرة لا يمكن إنكارها؛ والأسباب ليست غامضة. فالتقدّم العلمي المتسارع، وما تبعه من مكانة متعاظمة بات يحتلّها العِلم والتفكير العلمي في نظرة الإنسان إلى نفسه والعالم حوله، أعطى روايات الخيال العلمي زخماً كبيراً.

عدا عن سبب آخر مرتبط بما ذكرناه بدايةً عن ذكاء الخيال الخلّاق. فمذهل نبوءات وتوقعات روايات الخيال العلمي التي تحقّقتْ واقعياً في فترات زمنية لاحقة. يبدو الأمر كأن كتّاب هذه الروايات أنبياء سرديون يرسمون لنا تفاصيل الحياة التي سنعيشها في المستقبل.

الدافع الأساسي لكتابة هذا المقال كان ثلاث روايات تُصنّف من روايات الخيال العلمي قرأتُها مؤخراً. وبعض الانطباعات والمقارنات التي خلّفتْها قراءتي لهذه الروايات الثلاث رأيتُها جديرة بالمساءلة العلنية. مسألتان برأيي يستحقان النقاش هنا: ماذا يمكن أن تقدّم رواية الخيال العملي من عمق إبداعي، من دون الاعتماد فنيّاً وحصرياً على غرائبية السرد كشكل صادم وهدف مُكتفٍ بذاته؟ ثم، في روايات الخيال العلمي أو غيرها من قريناتها الفانتازية، هل من الضروري، فنياً، وجود كوابح لضبط شطحات الخيال المنفلت، هل من ضرورة لأُطُر تحكم اللعبة الروائية، المتمرّدة أصلاً على القواعد الكلاسيكية؟

في روايته الجديدة "تحديث Upgrade"، يضعنا الروائي الأميركي بليك كراوتش أمام موضوع وحبكة مثيريْن. كراوتش الذي تمرّس في كتابة روايات الخيال العلمي (رواية "المادة السوداء" Dark Matter)، لا يخيّب القارئ في روايته الأخيرة علمياً وفنياً. تدور "تحديث" حول ثيمة تعديل الجينات البشرية بواسطة تقنيات تعديل جينية علمية (متوافرة واقعياً الآن على نطاق ضيق في بعض مراكز الأبحاث) مثل تقنية "كريسبر"، و"ZFN"، و"TALEN". في "تحديث" يتعرّض بطل الرواية (لوغان) لفيروس يحمل تقنية تعديل الجينات. تبدأ بعض جينات لوغان بالتحوّر، فيكتسب تدريجياً ذاكرة خارقة، قدرات عضلية مذهلة، ملكات عقلية استثنائية. يصبح قادراً على التهام عدد كبير من الكتب في فترة قصيرة، من دون أن ينسى معلومة واحدة. يتحوّل جسد لوغان إلى آلة بيولوجية قديرة عصيّة على الأمراض. تطرح الرواية، عبر مشاهدها البوليسية والعلمية سؤالاً مهماً: إذا كنّا نمتلك القدرة، هل علينا التدخّل في تطورنا البشري الطبيعي لتحسينه وتسريعه؟

يعرف كراوتش موضوعه جيداً. الرواية ممتعة. لكن بعد قراءة الرواية، يشعر المرء بأن هناك عمقاً مفقوداً. بأن كراوتش لم يستخرج من سحر مادته أقصى ما يمكن أن تقدّمه الرواية إبداعياً. أجمل مشهد في الرواية هو مشهد لقاء البطل لوغان مع زوجته وابنته، بعدما أصبح إنساناً مُعدَّلاً آخر. في ذلك المشهد، تهجر الرواية عجلاتها الخيالية ورغبتها في الإبهار وتقدّم لنا أجمل ما يمكن أن تقدّمه رواية؛ ذلك التعقيد والعمق الكامنيْن في تشابكات العلاقات الإنسانية.

(ابراهيم نصر الله)

في رواية "حرب الكلب الثانية" لإبراهيم نصر الله، نتعرّف على ما يُسمّى برواية خيال علمي من نوع "الديستوبيا". يقدّم نصر الله محاولة جريئة فنيّاً لتصوير المدينة العبثية الفاسدة المنفلتة من أية ضوابط أخلاقية. يتحول بطل الرواية (راشد) من مُعارض إلى السلطة إلى موالٍ. في هذه المدينة، تستطيع السلطة بالتقنيات الحديثة مراقبة كل شيء. وفي لعبة خيالية رمزية عن التشابهات التي تمحي الحدود المـُفترضة بين البشر، بين ماضيهم وحاضرهم، يستغل راشد التكنولوجيا المتقدمة ليُحوّل سكرتيرته إلى نسخة شبيهة مطابقة تماماً لزوجته. لكن مشكلة الأشباه تنتشر ولم يعد أحد في الرواية وخارجها يعرف من هو الأصلي ومن هو الشبيه في عفن المدينة الفاسدة.

الرواية مغامرة فنيّة تُحسب لنصر الله. لكنها، برأيي، مغامرة تفقد بعد شوط من المضي فيها، تماسُكها الفني في بحر الخيال اللامنضبط. حتى في العوالم الخيالية والعجائبية، يبدو لي أن من واجب الروائي ومن مصلحته أن يُبقي القارئ في تلك المنطقة التي تُسمّى نقدياً "تعطيل عدم التصديق". أي حتى في عالم روائي غرائبي لامنطقي، لا بدّ من رسم حدود ومسارات تلعب داخلها الرواية، وتمنحها بناء منطقياً خاصاً بها يقنع القارئ وينسيه استحالة النص. "حرب الكلب الثانية" تفشل في هذا. بدا لي أن اللعبة الخيالية الغرائبية هنا أُسيء استخدامها، لمجرد أنه بإمكان الكاتب فعل ذلك. في حالات كهذه، يفقد الخيال بريقه. 

(كازو إيشيغورو)

بطريقة ما، يتفادى الروائي البريطاني الياباني كازو إيشيغورو، المطبّات والاستسهالات السابقة في روايته "كلارا والشمس". رواية خيال علمي عن الذكاء الاصطناعي. بإيقاع منظم مدروس، يقدم إيشيغورو عالماً يصبح فيه الذكاء الاصطناعي في "شخص" الفتاة كلارا سنداً وصديقاً للإنسان، ويمكن فيه لبعض الأطفال أن يُعَدلّوا وراثياً لتطوير قدراتهم. لكن بعض الأطفال المعدّلين يمكن أن يعانوا من آثار جانبية مرضية لتلك التعديلات، تُنهي حياتهم في النهاية. إحدى أولئك الأطفال، جوزي، المعدّلة وراثياً، مريضة. لمساعدتها عاطفياً وجسدياً، يشتري أهلها الروبوت الفتاة الذكية كلارا. تكتشف كلارا عالم البشر المعقد، وتنشأ علاقة إنسانية خاصة بين جوزي الإنسان وكلارا الروبوت.

تنجح رواية إيشيغورو في رهانها الخيالي لأنها ربّما تستخدم الخيال وسيلة، لا هدفاً. لأنها رواية أولاً عن الإنسان والحبّ والصداقة والوفاء والفضول والاكتشاف، رواية عن تعقيدات وجمال وصعوبة الحياة الإنسانية، قبل أن تكون رواية عن الذكاء الاصطناعي وغرابة ما يمكن أن تفعله الروبوتات. مع إيشيغورو، نشعر أن كل هذا اللاممكن الذي نقرؤه، ممكن حدوثه في عالم العواطف والشغف والحاجة والأمل. ذاك العالم الذي يمسّ أعمق ما فينا، وأقدم ما فينا، وسيبقى يمسّنا حتى لو تقدمت التكنولوجيا إلى زمن نترك فيه الأرض ونسكن على كوكب لم نكتشفه بعد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها