الجمعة 2023/06/02

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

التطوّر الثقافي دراويني أيضاً.. اصطفاءات اللغة والجمال

الجمعة 2023/06/02
التطوّر الثقافي دراويني أيضاً.. اصطفاءات اللغة والجمال
البيئة والثقافة المتوارثة كان لهما دور أكبر في تشكيل ونحت هويّتنا البشرية العاقلة
increase حجم الخط decrease
في اللحظة التي تشكّل فيها الوعي البشري، دخل في متاهة المعرفة، وصار يسعى إلى فك شيفرات الأسئلة المستعصية. مثلاً، كيف تطوّر الإنسان من قرد يحمل في دماغه بعض الذكاء إلى كائن عاقل؟ يمكن أن نصعّب السؤال: من هم أسلاف القردة قبل ذلك؟ وأسلاف أسلافهم؟ هل هناك خطّ مستقيم يصل بيننا وبين الخلية الأولى؟ ثمة إجابات معقدة جداً وطويلة جداً تصعب معرفة الكلمة الأولى فيها. بمعنى آخر، في نشوء الأنظمة المعقدة، يشوب المسار التطوّري لتلك الأنظمة الكثير من الفوضى والصدفة والتشابك بحيث يصبح من الصعب جداً الاستدلال على كيفية حصول البدايات بشكل النهايات.

مع ذلك حاول داروين تفسير تطوّر الأنواع الحيّة. كانت محاولته الأكثر نجاحاً ومصداقية. محاولته أصبحت نظريّة ولم تعد فرضية. صرنا نعرف بعض المعلومات المهمة التي كنا نجهلها سابقاً. مثلاً أن الخلية الأولى ظهرت حوالي قبل 3,8 مليار عام. البكتيريا قبل 3.5 مليار عام. مستعمرات الخلايا قبل 1,5 مليار. النباتات الأولى قبل 900 مليون. الفقاريات الحيوانية قبل 500 مليون. الثدييات قبل 200 مليون والرئيسيات (أسلاف أسلاف الإنسان العاقل) قبل 100 مليون عام. بعد ظهور الرئيسيات، وخصوصاً بعد انقراض الديناصورات قبل 66 مليون سنة، عملت فلترات الاصطفاء الطبيعي الداروينية بأقصى طاقتها لتبدأ قبائل الثدييات البشراناوية، أسلافنا الغارقون في القدم (قبل 7 ملايين عام)، بالتشكّل والتعلّم والتأقلم والتعقّد، في عملية تطوّر طويلة متسارعة تمخّض عنها هوموسيبيان عاقل، جدّنا المباشر الأول. حدث هذا قبل 200 ألف عام. فترة زمنية قريبة جداً نسبياً.

في كتابها "التسامي: كيف تطوّر الإنسان من خلال النار واللغة والجمال والزمن"، تحاول الكاتبة البريطانية جايا فينس، أن تفكّك بعض الشيفرات التي وجّهت تطوّر الجنس البشري. تعود فينس في كتابها إلى الملايين الأخيرة من السنوات. تلك التي تبدأ من لحظات تفرّعِ ما يُسمّى بأشباه البشر (القردة البشرية) عن أسلافها من قردة الشمبانزي وأقرانه.

جايا فينس كاتبة ومذيعة علمية مهتمة بشؤون البيئة والتطور البشري والعلوم الإنسانية، فازت بجوائز علمية، وشغلت مناصب تحريرية عليا في مجلات مرموقة ك (Nature) و (New Scientist). 
في تلك الرحلة الداروينية الطويلة، خصوصاً في لحظاتها المثيرة الأخيرة، لا تغفل فينس ذِكر دور البيولوجيا الوراثية الاصطفائية في رسم مصير الإنسان التطوري ببطء وبشكل تدريجي. لكن فينس تميل في كتابها، ومن دون أي حرج، إلى دراسة ومحاولة فهم تلك العناصر غير الوراثية، البيئية والثقافية، التي شكلّتْ التمدّن الحضاري الإنساني الحاضر الذي خرج من مسابقة الأنواع، منتصراً بتعقّله وذكائه، ليسود الأرض وما عليها، دون جميع الكائنات الحية الأخرى. وإذ كان الجدال ما زال محتدماً في أوساط العلوم الاجتماعية والإنسانية حول تحديد وتراتبية العناصر التي تقف خلف الهوية الإنسانية التطورية الحالية: هل هي البيولوجيا بشكلها الوراثي الصرف، أم البيئة بعناصرها المناخية الثقافية الاجتماعية؛ هل نحن أبناء الوراثة أم البيئة؟ تصطفّ الكاتبة بشكل واضح مع معسكر البيئيين الذي يرون أن البيئة والثقافة المتوارثة كان لهما دور أكبر في تشكيل ونحت هويّتنا البشرية العاقلة. ضمن هذه الرؤية تأخذنا فينس في رحلة تطوّرية ممتعة لطرح بعض الفرضيات المدعومة بأدلّة عديدة عن الأدوات التي رسمت مصيرنا البشري.

تشبّه فينس التطوّر الثقافي الإنساني بالتطوّر البيولوجي الدارويني. كما هناك اصطفاء طبيعي للأنواع، حدث اصطفاء ثقافي للجنس البشري. كما هناك مورثات ساعدتنا على البقاء والتكاثر، ثمة في المقابل عناصر بيئية ثقافية ساعدتنا على البقاء والتكاثر. الفرق أن الاصطفاء الطبيعي يعمل على مستوى الأفراد، بينما الاصطفاء البيئي الثقافي يعمل على مستوى الجماعة. في هذا الماراثون الثقافي على مدى ملايين السنين، تُحدّد فينس أربعة عناصر قادتْ ارتقاء أسلافنا أشباه البشر إلى بشر كاملين عاقلين: النار، اللغة، الجمال، الزمن. 

خلال السنوات المليار الأولى من عمرها، لم يكن هناك من نار على سطح الأرض لعدم وجود أوكسجين (الأكسجين أتى لاحقاً بعد نمو النباتات وعمليات التمثيل الضوئي النباتي). لاحقاً انتشرت الحرائق في الغابات، وأسلافنا أشباه البشر لاحظوا قيمة النار وبدأوا بالاستفادة منها. للمرة الأولى، استطاع أسلافنا الاعتماد على مصادر طاقة خارجية لتحسين حياتهم. وذلك التحسين لم يكن بسيطاً. بالنار، استطاعوا طبخ الطعام، واستخدام طاقة بديلة عن طاقتهم العضلية الذاتية. بمصادر الطاقة الجديدة هذه، لم نكتف بأكل النباتات واللحوم النيّئة، بل صرنا نطبخها ونشويها بالنار لتزوّدنا بطاقة هائلة (طاقة الأكل المطبوخ أكبر بكثير من النيّء). بالنار، استطاع أجدادنا توفير الكثير من الجهد والوقت اللذين كانا يُبذَلان لتوفير الطعام وهضمه وتغذية أجسادنا. أول دليل على بدء أسلافنا بإشعال النار بأنفسهم يعود إلى حوالي 1,5 مليون سنة، في منطقة "الوادي المـُتصدّع" في شرق إفريقيا.

اكتشاف النار ثم صنعها كان منعطفاً مصيرياً في تاريخ تطوّرنا. استطاع دماغ أسلاف الإنسان أن ينمو بشكل متسارع. مع زيادة الحجم، ازداد الذكاء الفردي والجماعي. ميّزة أخرى وفرّتها شعلة النار، هي توفير حماية أكبر لقطعان البشر، وبدء تشكل علاقات اجتماعية قطيعية. إمكانيات البقاء تزداد دائماً مع ازدياد عدد الجماعة. 

لكن الإنجاز الأكبر الذي عمّق الترابط الإنساني إلى أقصى حدوده وشكّل نقطة انفجار ثقافية لم تنتهِ حتى اليوم، هو إنجاز اللغة. تعود فينس إلى اللحظات الأولى التي خرجتْ فيها أولى علامات اللغة من حناجر أسلافنا. على الأغلب، بدأ الأمر بالصفير وتقليد أصوات الحيوانات والطبيعة والإيماءات. ما زال الغموض يحيط بفرضيات منشأ اللغة، لكن على أبعد تقدير حصل ذلك قبل 150 ألف سنة. ثم بشكل تدريجي، تعقّدت الأصوات والمعاني. مع اللغة، بدأت الثقافة الإنسانية مرحلة التراكم والثراء والمرونة الضرورية لبناء أولى لبنات الحضارة. تلك القدرة على نقل المعلومات ومشاركتها، على توريث الثقافة بالكلمات كما تُوَرّث وحدات الدي إن آي، فجّرت الوعي الإنساني وفتحتْ أمامه آفاق السيادة والارتقاء. 


تعرّج الكاتبة بعد ذلك على قيمة الجمال في تشكيل مسيرة التطوّر. الحقيقة، في البداية، من قراءة الفهرس فقط، بدا لي هذا التعريج في الكتاب غير مفهوم وغامض. لكن فينس تنجح بذكاء في توحيد معنى الجمال، داروينياً وثقافياً، كقوة دافعة للاستمرار البشري وارتقائه. من المتعارف عليه أن الإنسان، منذ الأشهر الأولى من حياته كرضيع، لديه القدرة على تمييز الجمال والانجذاب إلى التناظر. هذا الانجذاب وليد ما يُعرف بـ"الاصطفاء الجنسي الدارويني" الذي تشكّل عبر ملايين السنين. انتقل هذا الانحياز الجمالي البيولوجي، إلى تطوّرنا الثقافي. صرنا ننجذب إلى الجمال والتناظر بشكل فطري. في الصروح التي نبنيها، في الهدايا التي نتبادلها، في المعاني التي نخلقها، في العلاقات التي نريد أن تساعدنا على البقاء. الجمال ساعدنا على تبادل الشغف والرغبات. ساعدنا على اجتراح التعاون، وتوحيد أهدافنا الإنسانية. رغبتنا في تقليد الجمال، أينما كان، أعطى لإنسانيتنا وثقافتنا تلك القدرة على الاستمرار والإلهام.

ماذا عنتْ أخيراً الكاتبة بالزمن؟ ذلك المفهوم المجرّد الذي آمن به أسلافنا ونظّموا على مساره حياتهم، وفي الوقت نفسه، منحوا من خلاله عقولهم القدرة على السفر من الماضي إلى المستقبل وبالعكس. تلك القدرة على السفر العقلي كانت بداية تشكّل الخيال البشري. عبر الزمن، حاول الإنسان فهم الماضي وإعادة تشكيله، وتخيّل المستقبل والسعي إلى تحقيقه. الزمن منح الإنسان أداة إضافية لفهم ماهية المعنى، وتطوير الوعي الإنساني ورسم أولى الخطوات في طريق الإبداع البشري.  

تحاول فينس في كتابها، جاهدةً، فهم وسرد حكاية المسيرة البشرية في خطواتها المثيرة الأخيرة. تفعل ذلك مستعينةً بالثقافي على البيولوجي. أو بالأحرى، مُكمِّلةً النظرية الداروينية البيولوجية بنظرية داروينية ثقافية بيئية. تنجح إلى حدّ كبير في ذلك، وفي أماكن أخرى تبدو منحازة لما تؤمن به بغض النظر عن قوة البراهين. لكنها تقدم لنا كتاباً مثيراً معرفياً يستحق أكثر من قراءة واحدة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها