الجمعة 2022/10/21

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

"المرأة الملك" وخدعة تقدّم نسوي عِرقي: إنها الترندات المُربحة!

الجمعة 2022/10/21
increase حجم الخط decrease
قبل نهاية فيلم "المرأة الملك"، الفانتازيا المحمومة حول التمكين الذاتي للسود، والمعتمد بشكل فضفاض على أحداث تاريخية؛ تتجلّى الرمزية في إحدى صورها الكلاسيكية: يُضرب أحد تجار الرقيق بالسلاسل الحديدية الثقيلة ذاتها التي استَعبد بها سابقاً "بضائعه" البشرية. مُحارِبة إفريقية سوداء تتسيّد رجلاً أوروبياً أبيض.

بحلول هذه اللحظة من الفيلم، تُبعد المخرجة جينا برينس-بيثوود نفسها أخيراً عن أي تظاهر وادعاء بتقديمها عملاً تاريخياً. في الواقع، يستوى فيلمها عملاً خيالياً بامتياز. حقيقة أن فيلمها يُحتفى به في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، وكونه يتصدّر لوائح إيرادات شباك التذاكر هناك، وحتى إنه يعتبر مرشّحاً لجوائز الأوسكار من قِبل البعض.. ففي ذلك كله ما يقول الكثير عن حالة الجدل الاجتماعي والسياسي في أميركا المعاصرة.

كان هناك حديث كثير عن التنوع وتمثيله (representation) في السنوات الأخيرة، وهذا صحيح بالطبع، لأن هوليوود، ولفترة طويلة جداً، همّشت مَن لا يُوافقون معاييرها النموذجية، أي المُثل القوقازية شكلاً، والميل الجنسي المغاير. حقيقة أن هذه الثوابت القديمة تتغيّر ببطء حالياً، لا تتعلّق بشكل أساسي بموقف تحرّري تبنّته الصناعة الأميركية مؤخراً، بل باعتبارات مادية صرفة. من المهم لماكينة صناعة السينما الضخمة، تلبية تطلعات جمهورها طالما يضمن تطبيق هذا النهج إبقاء العجلة دائرة.

فيلمٌ عن مُحارِبات سوداوات أسطوريات، عِشن وقاتلن في ولاية داهومي غربي أفريقيا، في أوائل القرن التاسع عشر، ليس شيئاً يمكن أن تنفق عليه هوليوود موازنة قدرها 50 مليون دولار بسهولة. لكن عوامل ثلاثة جعلت إنجاز "المرأة الملك" ممكناً: نجاح فيلم مارفل "بلاك بانثر" (2018)، الذي ظهر فيه أبطال خارقون سود، والأهم من ذلك، طاقم من المقاتلات المستوحَيات من المحاربات الأمازونيات الأسطوريات؛ والنجاح الذي حققته جينا برينس-بيثوود قبل عامين بفيلم الحركة "الحرس القديم" (من بطولة تشارليز ثيرون وإنتاج نتفليكس)؛ وأخيراً فيولا ديفيس، إحدى أشهر وأقدر الممثلات النشطات حالياً، والتي عملت كمنتجة للفيلم إلى جانب بطولته.

تلعب ديفيس دور "نانيسكا"، وهي جنرال ضمن ما يسمّى الأغوجي، وهي وحدة عسكرية من النساء حصراً يمنع عليها الزواج أو الإنجاب ومكلّفة بحماية ملك داهومي (إحدى أقوى دول أفريقيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحالياً حلّت محلها دولة بنين). بحسب الفيلم، في العام 1823، كان الملك غيزو (جون بوييغا) على خلاف مع مملكة أويوس المجاورة، التي تطالبه بدفع جزية سنوية، والأهم، التحكّم في ميناء ويدا، المهم لاقتصاد داهومي. يقوم هذا الاقتصاد إلى حدّ كبير على تجارة الرقيق، والتي، على عكس المتوقع، لا يُعلمنا عنها الفيلم كثيراً.


على الرغم من أن أساس الفيلم تاريخي، إلا أن مملكة داهومي كانت في الواقع في صراع مع مملكة أويو في العام 1823، أنهاه الملك الشاب غيزو، بالقوة، وهو الذي وصل إلى السلطة بطريقة مثيرة للجدل قبل بضع سنوات فقط. وبالتالي، فجوهر الفيلم محض خيال وزخارف تتزايد طوال مدته (138 دقيقة).

لا يهتم الفيلم بالتاريخ أو التدقيق، إلا بالقدر الذي يخدم حكايته و"درسها المستفاد"، إذ ينصبّ تركيزه على نساء الأغوجي، اللواتي يوصف نظام تدريبهن الصارم بالتفصيل. لا تذهب الشابات دائماً طواعية إلى قصر الملك، إذ يعشن فقط من أجل القتال بلا أي ظلّ يتيم لرجل، بينما الملك يحظى بأكثر من زوجة. يختبر المُشاهد هذا العالم من خلال عيون المُحارِبة الشابة ناوي (ثيسو مبيدو)، التي، نسبياً على الأقل، تقدّم نظرة جديدة للظروف الاجتماعية والسياسية في أفريقيا بالنسبة لسينما هوليوود: نرى دولة منظّمة تماماً، اقتصاد فاعل، دولة واحدة تتمتّع بالسيادة والثقة.

رغم ذلك، فالواقع التاريخي معقَّد، وكقاعدة عامة لا يتناسب مع المخططات البسيطة التي تفضّلها السينما التجارية (التي ينتمي إليها الفيلم بكل تأكيد). جدير بالذكر أيضاً أن جزءاً من واقع غرب أفريقيا، والمتمثل في شيوع تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، لم يكن ليتحقق لولا المشاركة النشطة للشعوب الأصلية. لا شك في أن جوع العالم الغربي لكميات هائلة من العمالة الرخيصة هو الذي أوجد طلباً هائلاً لم يكن في مقدور أو في إرادة أي شعب إفريقي مقاومته.

ومع ذلك، بالكاد توغّل تجار الرقيق إلى داخل القارة، فقد بنوا الحصون على السواحل الإفريقية، كما في، على سبيل المثال، ساحل العبيد في غانا اليوم، أو في داهومي، ومن هناك زُوّدوا بالعبيد من قبل وسطاء سود. تستند ثروة داهومي بشكل خاص إلى حد كبير على هذه التجارة، التي أراد ملوك داهومي مواصلتها حتى عندما حُظرت تجارة الرقيق، رسمياً على الأقل في العام 1808.

من ناحية أخرى، فإن ما يقوله "المرأة الملك" يبدو مختلفاً تماماً. صحيح أنه لا ينكر وجود الرقيق وتجارتهم في داهومي بالكلّية، لكنه يقلل من شأنها ومن دور رجال ونساء المَلك في ازدهارها. يُؤخذ العبيد هنا فقط كغنائم حرب، ويُعاملون معاملة حسنة. وفوق هذا كلّه يخالف الفيلم مسار التاريخ الدقيق في سبيل إثراء حكايته وجعلها أكثر إثارة وبطولية: نانسكا، المُحارِبة التي لا تُقهر والقادرة على مجابهة أي فحل، ومستشارة ملكها غير القابلة للفساد، تتطور إلى مُعارِضة شديدة للاسترقاق وتنذر نفسها (ورفيقاتها) للقتال ضد أعداء انتهكوا شرفهن واستعبدوا شعبهن وهددوا بتدمير كل ما عشن من أجله.

لفترات طويلة، يتحرك الفيلم في مسارات سردية تقليدية تزخر بجميع عناصر السينما السائدة، لكنه يفعلها بأبطال جُدد يهيمن عليهم منظور الصوابية السياسية. هنا الأبطال، أو البطلات بالأحرى، من "خارج الصندوق"، نساء أفارقة سوداوات محاربات. في النهاية، يُتخلّى عن كل علامات السرد التاريخي، وبدلاً من ذلك تُعلن رسالة (بالمعنى الأخلاقي للكلمة) إفريقية، لا ينبغي أن تعني نهاية العبودية فحسب، بل أيضاً نهاية النظام الأبوي.

لم يعُد لهذا أي علاقة بالواقع التاريخي، بل بروح العصر و"ترنداته"، من التمكين مروراً بالانتقام في مواجهة الإساءة الذكورية، وصولاً إلى تمجيد البطولة الأنثوية. يأتي هذا كلّه متوافقاً مع تصاعد خطاب أنغلو-أميركي يطالب هوليوود بتزويد السود -وخاصة النساء- أيضاً بشخصيات بطولية نموذجية عصرية. ويمكن للمرء أن يخطئ في اعتبار ترجمة الفيلم لهذا التطوّر/المطلب باعتباره تقدّماً. في الواقع هو أقرب للهروب إلى الأمام.

(*) يُعرض حالياً في بيروت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها