الخميس 2022/01/20

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

هل سيرة جورج وسوف في منصة "شاهد"... فن؟

الخميس 2022/01/20
هل سيرة جورج وسوف في منصة "شاهد"... فن؟
سلطان الطرب نجح بمشيئة الرب ورضا الوالدين.. ولا مُلهِم له!
increase حجم الخط decrease
كان الإعلان في منصة "شاهد"، لوثائقي درامي عن حياة الفنان السوري، جورج وسوف، مثيراً للريبة. من موقف أخلاقي سياسي خليجي وعربي أولاً، ومن ثم موقف استفهامي أو إشكالي: لماذا جورج وسوف؟ كانت الإزاحة لاواعية عند الجميع عما يكونه الوسوف أصلاً. فلم يتم التعامل مع الوسوف بوصفه فناناً أو حتى صاحب ظاهرة فنية، امتدت بين انتهاء ما يُسمى زمن العمالقة، وزمن آخر يُسمى زمن الشباب. تتم التسميات في منطقتنا من باب ذاتي أو عشوائي، بالتأكيد الدائم على فارق بين عصور تنتمي لأجيال عُمرية مختلفة، من دون التوثيق الجيد لما يبدو فناً، وطبيعة ما يستطيعه، أو سببية نشوئه وشيوعه وطبيعة تغيراته.

في هذا، كان على ظاهرة جورج أن تبدو، لأسباب كثيرة، داعمة لإنشاء السيرة. التلقي الجماهيري للعمل حمل أنماطاً إدراكية عديدة. فأصحاب النمط الشخصي في تلقي الفن، انتظروا المسلسل بطريقة انفعالية هائلة، (character) تعظيمية لشأن الفنان ومعناه. لهذا النمط أبعاد أكثر انتشاراً في مجتمعنا، معيار التماهي مع الفنان، ونطاق الترابطية الفنية والنفسية بين جورج الفنان، ومسيرة جيل ومشاعره التي ترتبط فيه وبأغانيه، فتبدو الترابطية أكثر اشتداداً وتصل إلى معيار عصبوي انفعالي غير سويّ أحياناً. وفي بُعد آخر، هناك من تلقى العمل من زاوية أخلاقية، في إزاحة فن جورج وسوف على حساب شخصه وسلوكه. "الحشاش"، "المُدمن"، "الشبيح"، "الموالي للنظام"... ترافقت هذه الكلمات مع نقد العمل ومهاجمة جورج في كثير من وسائل التواصل.

في سياقات الأنماط الإدراكية للأعمال الفنية، هناك شيء أهم، إزاحة نوعية التلقي ونمطه، وإدراج ما يبدو واجباً على تلقي أي عمل فني. أي الواجب "الاستطيقي"، تلقي العمل كفن والبحث عن موقف جمالي نعاينه ونتأمل فيه ويقدم لنا ما يبدو ممتعاً بعيداً من تقييمات فطرية سببها التعلق بالشخص والشغف به، أو البحث وراء موضوعيته أو سياقاته التي خلقته. يحرمك المسلسل سريعاً من هذا، من الموقف الجمالي، ويقع في ما يُسمى "المغالطة المنشئية" (genetic fallacy) أو "مغالطة الأصل" (fallacy of origins). فالممثلون لا يملكون لهجة سورية، أو لهجة ريفية تتصل بمنشأ الوسوف وطبيعة قريته. لم يعرف أحد سبب هذا، منطقة في ريف حمص كموقع، جُردت من خصوصيتها، هنا بداية الخطأ فنياً، فحتماً يحتاج المتلقي موضوعية ما، يحرمه النص منها سريعاً. ثم الإهانة التي تخلقها الحلقات الخمس الأولى لجورج وسوف، في أن تجعله مؤدياً أكثر من كونه فناناً. فلا تاريخ فنياً للعائلة وهذا مُتاح، لكن المخرج لم يستنطق الوسوف من أجل أي خلفية فنية تدلنا على ما وصل إليه، فكثيراً ما تأثر المخرج بسير الرهبان والقديسين، فظهر الطفل جورج بوصفه مُصلّياً، وداعياً لربه، من أجل موهبته، أكثر من نقاط علامة لتأثره بالفن، أو ميله للاستماع لفنانٍ ما، أو تأثره بأي أحد. لم يظهر اسم ملهم واحد للوسوف ليبدو فناناً. والمغالطة هنا تصل إلى حد أننا لم نعد نعرف أن الدراما المصنوعة عن الوسوف هي عن فنان.

View this post on Instagram

A post shared by Shahid (@shahid.vod)


الإلهام الإلهي لموهبة الوسوف، وصِلَته بالله، يتوازيان مع صيغة عربية متخلّفة، تُفقر الفنان من تأثراته الاجتماعية أو الفنية، أو البُعد الاجتهادي الخاص. كأن الموهبة مركّب إلهي لا يتأثر ببُعد إنساني أو جمالي. فتبدو مسحة الإيمان في المشاهد الطفولية أو الناضجة، ساذجة، وتدلّ على تديّن كيفيّ أقرب إلى الواجهة الشعبوية للتدين. جعل المخرج، الشخصية في ركود. ومَشاهد إنسانية الوسوف، مفرطة بطريقة ساذجة. وكأن كُل ميل للوسوف فنياً، وإن لم يظهر، ينتمي لإلهية الموهبة، ورضا الوالدين.

في مكمنٍ آخر، تُزاح سوريا من اليوميات التي يحاول الوثائقي رصدها. فلا شوارع، ولا طبيعة ديموغرافية، أو سياقات بشرية نتذكرها أو ندركها. وكل الحوارات تملك مبدئياً وجهة إسنادية لطبيعة الشخصية من دون أن تملك خصوصيتها.

ورغم اعتراف الوسوف قولاً بمرافقته لفنانة راقصة وهي غادة بشور، وهذا ليس عيباً، إلا أن سياقات مشهدية لم تدعم هذا. لم يخرج الوسوف لطبقة مدنية سورية أبداً، بل كان مُطرب الضباط، انفعالهم البشع، وسياقات تخلّفهم الأكثر ظهوراً في واقعنا اليوم وفي الماضي. كانت تجربة جورج الحقيقة هي كونه "فنان الفرقة الرابعة"، أكثر من كونه فناناً مُلهماً مُعبّراً عن سياق شبابي عاطفي، رغم نجاحه في هذا. نحن لا نلوم المخرج هنا على ما لا يُريد قوله، لكننا نلومه على فهم السيرة بجعلها مجالاً آخر للجمال، أو مجالاً حتى لفهم سوريا التي نعرفها.

ثم كيف اختار جورج وسوف ألبوماته. كيف وصل إلى أن يكون ذكياً في الميل لملحنين مصريين مثلاً؟ كيف أخذت التجربة سياقاً ناجحاً في كل منطقة عربية وطأها الوسوف، ونجح فيها؟ كل هذا يبدو خفياً، فالوسوف الذي يراه المخرج والكاتب، يظهر بوصفه شخصاً لسيرة لا تُشبهه، ولا ينطق بلغة عمل. تحرم السيرة المشاهد من أي بُعد جمالي وصفي أو مشهدي أو حواري. فُقر القائمين على العمل فنياً، أو حتى في مجال أدب السير والدراما يبدو مفجعاً، فحتى قبوله كوثائقي درامي يبدو صعباً. فالدراما مفقودة فيه، كارتباط للفن بالحياة، أو الفنان بما وصل إليه أو اختاره. وحتى الغريب عن الوسوف، لن يرى في العمل أي موقف جمالي أو مسحة من المتعة الانفعالية.

قد يقال إن ما صُوّر درامياً هو ما قاله الوسوف عن نفسه، لكن طبيعة العمل تُظهره بلا فائدة، فلا دراما مترابطة في السياق، ولا تمثيل جيداً أو حيوياً. هناك واجب للجمال في كل عمل، علينا صنعه، كيفما تَقولَّ صاحب السيرة عن سيرته، وهذا ما لم نجده في العمل أبداً. سلطان طرب لا يملك مُلهماً، ولا هوساً بالموسيقى أو الفن.

منصة "شاهد" لم تنجح في إطلاق ما سيكون مُلفتاً، لكنه درس جيد لمعاينة الدراما حينما توجه عينها نحو السِّيَر التي من الممكن إنتاجها من أجل الجمال أولاً، وليس من أجل إتحاف أصحاب الميل الشخصي لعشق الفنانين بما يتعطشون لأجله.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها