الجمعة 2023/03/31

آخر تحديث: 15:39 (بيروت)

لماذا ناجي جبر أبو عنتر أبدي؟

الجمعة 2023/03/31
لماذا ناجي جبر أبو عنتر أبدي؟
حقبة ناجي جبر انحصرت في "أبي عنتر" ليس لضعفٍ فيه بل لفقر الفنية الإبداعية السورية
increase حجم الخط decrease
افتتح التلفزيون مسيرته على خريف الواقع السوري في حد ذاته. كانت مراهقة التلفزيون السوري هي مراهقة أبناء الشعب ذاتهم. ما كان مسرحاً وكان شديد الانتشار تحول للتلفزيون. الفرق الشعبية، والاحتشاد الجماعي للمسارح. وتم اكتشاف التلفزيون بوصفه ذا نزعة قدسية للمتعة. وجد السوريون التلفزيون أمتع من السينما والمسرح، وأكثر تناغماً مع ذواتهم التي يخلقها "بعث" العسكر، فمع وصول حزب "البعث" إلى السلطة، بدت الأخيرة معادية للشارع، للمجتمع، والنقابات، لأي نشاط يعاين فيه الأفراد فرديتهم وآراءهم ومشكلاتهم وبعضهم البعض أيضاً، فأصبح السوريون أصحاب هوية تلفزيونية، التضاد مع المكان المفتوح والمتجمهر. التضاد مع كل ما يجعل الذات أو الشخصية محتجة وموجودة في مكان عام.

ظهر أبو عنتر في هذا السياق، الكوميديا التي تُتحفنا بصلات الذاكرة بما عاشته أو عرفته في الماضي. ظهر ناجي جبر في المسرح، وفي التلفزيون منذ الخمسينيات والستينيات، إلا أن وجوده الفعلي هو الشخصية التي أظهرت عضلاته، والعبوسة الذكورية، وطول يده على رقاب الجميع. في مسلسل "صح النوم" كان مُركّب الشخصية الخيالية، لكن من الممكن لكل السوريين محاكاتها من ذاكرتهم، إذ تنتمي لذاكرة مكان الفُرجة الأول: الشارع، الحارة. إن أبا عنتر هو فُرجتنا الأحلى والأجمل والأكثر ارتباطاً بذاكرتنا.

تنتمي ذاكرة البشر إلى تحيّز عصبي لفترة زمنية ما، فالذاكرة، مهما راكمت من أزمنة، تبقى أكثر صلة بفترة المراهقة لدى كل انسان، فترة المراهقة التي تحفظ كل شيء، وحتى لو أصيب المرء بألزهايمر، فهو سيتذكر فترة مراهقته حتماً. من هنا لم تفقد أجيال عديدة ذاكرتها اللفظية عن أبي عنتر، الهامة الجسمانية، الرزانة الهائلة في حركة الجسد قبل الضرب، والصلة الرمزية للجسد بوصفه يحمل رسالة، حتى هذا اليوم يستنسخ أبناء الطبقة الفقيرة في سوريا وشم أبي عنتر الخالد "رضاك يا أمي" أو "باطل".

لا نملك تفاصيل كثيرة عن ناجي جبر، إلا أن بُعد الشخصية يحملنا مراراً إلى قدراته، شيء من ناجي يبدو من دون مسافة جيدة عن أبي عنتر، إنه في كل ظهور له لن يُذكر اسمه الحقيقي، وكأن الولادة المؤجلة له كانت الدور الذي لعبه. المراقبة الحثيثة له تكشف هذا، الزمن الذي يستخدم فيه يده للضرب، قدراته على تذكير السوريين من مواليد الثلاثينات وصولاً لمواليد الثمانينيات – وربما حتى مواليد هذا اليوم في سوريا - بمقدس الحارات، العكيد – الأزعر - المعدّل، الرجل الأقسى على الرجال الآخرين. هناك ميل لدى السوريين في إنتاج عكيد أو رجل خارق، أزعر، لاأخلاقي، أو الأخلاقي في كل حقبة درامية، لكن يبقى الأصل احتكاراً لناجي جبر، في لقطته الأولى وظهوره الأول.

ما يجعل أبو عنتر أصيلاً، حقيقة الشخصية بطبيعتها الواقعية، أي أن المحاكاة الاختزالية لشخصيته كانت تملك مقدمة منطقية بداية، ونهاية مُحكمة. الشخصية كانت واقعية واستطاع ناجي تجسيدها بأمانة، خلافاً لشخصية العكيد والقبضاي التي حاول "باب الحارة" مثلاً تكريسها.

أصالة أبو عنتر في قدرة الكاتب وقدرته هو تحديداً على تحميل الاختزان الواقعي للشخصية في ذاكرة المجتمع. قد يظن البعض أن الشخصية بسيطة، أو أن دلالة أبو عنتر هي دلالة القبضاي التقليدي أو إحدى شخصية الزعران النمطية، لكن هذا خاطئ. تدور شخصية "أبو عنتر" ضمن مسؤولية السؤال: ماذا لو وضعنا "أبو عنتر الأزعر" هنا، ماذا سيفعل، وماذا فعل في وقت سابق؟ هذه الدلالة أنشأها الواقع، النوافذ التي فُتِحت سِراً من أبناء وبنات العائلات في بداية القرن العشرين، لمشاهدة القبضاي يضرب ابن حارة أخرى، أو يضرب فتى ينقل طعاماً لمُعلمه في السوق لكي يأكله، أو قوة البطل الأحمق في محاولته جر صخرة، أو زيارة المقبرة ليلاً.

هذه الغرائب التي تتحوّل لكوميديا في وقت لاحق كُلها وجدها السوريون منطقية وحافظوا عليها، بخلاف العكيد "أبو شهاب" (باب الحارة) وأي فكرة طُرحت لعكيد آخر. العكيد الذي لم يكن يوماً في منطقهم وتاريخهم سوى ممثل لطبقة الأغنياء ورجال الدين. في شرح مطوّل لفيليب خوري في كتابه "أعيان المدن والقومية العربية" يُمكن اكتشاف هذا، العكيد بوصفه يد السلطة، ويدها القاسية أيضاً، خلاف لما يتمّ نشره وتورطينا فيه كي نتخيّل المُخلّص بوصفه عكيداً.

يتسق أبو عنتر إذاً مع واقع طبيعي وغير مُفتعل. هذا ما جعله يستمر باكتنازه لصورة حقيقية، التمرّد الأكثر استثنائية، وفرضية (لو)، ووجوده المُكرر في أكثر من سياق درامي (حسب ستانيسلافسكي). حافظ ناجي جبر على شكل ما للرجولة وهفواتها حينما تكون شخصية الذكر عنفية. في التسعينيات، ربط مسلسل "أيام شامية" الشخصية أكثر، عبر شِعر عنترة، هذه أيضاً دلالة حملها المُهمش في قدرته على تحويل (لو) إلى سياق متصل عنيف ومختلف في الحاكمية، أي النهاية الممكنة للشخصية، ثم أن مبرّر عنفها يكون في استغلالها في مقاومة مُستعمِر.

هناك شيء من أبي عنتر في كل ذكَر أو طفل أيضاً، نجاحه يتمّم تمرّدنا على أي سلطة عليا. وتعاظم فكرة السلطة من الستينيات حتى اليوم، أيضاً، جعل "أبو عنتر" باقياً كنوع من الحميمية، للتمرّد على السلطة العليا وبسخرية أيضاً. فيشكل في كل مرة يُذكَر، رغبة لاواعية في التواجد أو الاستدماج فيه.

اقتفاء شخصية "أبو عنتر" ليس تكريماً فقط لناجي جبر، بل محاولة لفهم تاريخ الفن السوري منذ نشأته ونشأة مسرح الكاباريه السياسي في سوريا وانتقاله نحو التلفزيون. لا سيما أن دور ناجي العنتري ليس مخلوقاً من سياق الكاتب وحده. لقد عُرف عن نصوص نهاد قلعي أن لكل "كاراكتر" فيها، حياة طبيعية داخل النص، أي أن النص هو مسرحهُ الأول للخلق، ثمّ أن الممثل ينطلق في رحلة الشخصية وتقويم ورسم أبعادها. أي أن ناجي خالق الشخصية بثقافته الخاصة ووعيه لدوره وصُنعه له.

حقبة ناجي انحصرت في دور "أبو عنتر"، ليس لضعفٍ فيه بل لفقر الفنية الإبداعية السورية في فهم النجاح لكاراكتر ما. شيء من الهوس في الشخصية يبتلع أي ممثل ممتاز يُتقن دوره ويبرع فيه. ناجي ابتلعه دوره إلى الأبد، منذ نجاح أبي عنتر ذاته وهذا مكرر أيضاً. لدى المشاهدين العرب رغبة في أن يكون كل نجم، حتى هوليوودي، في صيغة مقاربة للدور الذي يحبونه فيه ويتمنون علناً عدم خروجه منه. في استطالات أخرى لشخصية "أبو عنتر" ما بعد مرحلة "صح النوم" نمت الشخصية قليلاً، وكان نجاح المسلسل مرتبطاً بأي مشهد لأبي عنتر بصيغته الكلاسيكية، العنيف، الأزعر، زعيم السجن، المُتمرّد على السلطة العليا. في هذا لن ينجح أبو عنتر في تجديد سياقه، ولا ناجي في إبراز قدرته على أن يكون أكثر وضوحاً وموهبة وقدرة، لكن بقاء الشخصية احتفظ بطابع رمزي واقعي لمرة أخرى.

في كل مرحلة مرتقبة من حياة النضج لدى الشبان والفتيات، هناك ظهور للعنيف المُضحك، والعنيف الجبان أيضاً، والعنيف الذي لا بد لمراحل تطور الشخصية أن تتجاوزه. أبو عنتر هو السياق الرمزي في غلظته وفي فكاهته. في دولنا التي لم تخرج من بداية القرن العشرين، في حاراتها ووعي سكانها وسرديات الخوف من الخروج إلى الشارع، مازال لأبي عنتر وجود هائل، وأي مشهد له كفيل بالتحقق منه واقعاً، خلافاً لأي شخصية حاول السوريون خلقها لشخصية العكيد مثلاً، رغْم أن ناجي أداها بطريقة أكثر واقعية. حتى أقرانه في العمل الأول لم يستمروا طويلاً في الذاكرة.


لا جاذبية لدى الأطفال حتى لـ"غوار الطوشي" لأن تكراره سهل، ولا لـ"حسني البورظان" الفقير على مستوى الموهبة التمثيلية، ولا ياسين بقوش في دور الفتى المسكين الطيب. أما "فطوم حيص بيص" فقد جرى نسيانها لأن الفتاة المثال اليوم لن تُشبه أبداً الفتاة المسكينة صاحبة الحمّام. جدير بالذكر أن شيء من الرهبانية طغى على دور أبي عنتر، فهو نموذج أيضاً لسلطة ذكورية متمنعة عن النساء، أي أن الفُرجة عليه كانت لبطولة عصامية أيضاً فيه، وهذا أيضاً واقعي. كثر ممن يطلقون عليهم الزعران يملكون هوساً في أن يُخلصوا لشوارعهم وسيطرتهم ومقالبهم، أكثر من كونهم يملكون هوساً بالنساء. ورسم أبو عنتر هذا بإخلاصه للعنف، والتمرد الدائم، والطبيعة الجسمانية المهيبة التي ارتبطت بطريقة سير مختلفة، وأيدٍ قوية وموشومة برمزية عاطفية وعنفية، فكان حتى جسده مؤشراً لكيف سيكون الجسد ووشومه مسرحاً خاصاً لفهم الشخصية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها