الإثنين 2022/01/17

آخر تحديث: 12:25 (بيروت)

جان شمعون... ذاكرة سينمائية وشاهد بالكاميرا

الإثنين 2022/01/17
جان شمعون... ذاكرة سينمائية وشاهد بالكاميرا
تجربة جان شمعون اللبناني ومي المصري الفلسطينية جديرة بالدراسة
increase حجم الخط decrease
جان شمعون (1944-2017) علامة بارزة في تاريخ السينما اللبنانية، وهو أحد مخرجي الموجة التي ظهرت خلال الحرب الأهلية مثل برهان علوية، مارون بغدادي، جوسلين صعب، ورنده الشهال. وكانت بداياته من السينما الوثائقية التي أنجز فيها أفلاماً عديدة، إلا أنه لم يقف هناك وجرب حظه في صناعة فيلم روائي، وأفلام مع زوجته السينمائية الفلسطينية مي المصري، التي صنع معها أهم الأفلام في مسارهما السينمائي المشترك، ومن أهمها، "رهينة الانتظار"، "أحلام معلقة"، "بيروت جيل الحرب" "مصابيح الذاكرة"، "يوميات بيروت"، "تحت الأنقاض"، و"زهرة القندول"، وبعد ذلك أكملت مي بمفردها منذ أن مرض جان ورحل، وأخرجت فيلهما الطويل بعنوان 3000 ليلة العام 2015، الذي حاز 28 جائزة دولية.

درس شمعون السينما في جامعة باريس الثامنة (فانسان) في أواخر الستينيات من القرن الماضي، وهناك عاش وشارك في ثورة الطلاب في فرنسا في أيار 1968، وبعدما أكمل دراسته عاد إلى بيروت وكانت الحرب الأهلية قد بدأت ترسل إشاراتها في الجهات كافة. وقبل أن يذهب إلى السينما الوثائقية، قدّم مع الفنان زياد الرحباني برنامجاً إذاعياً "بعدنا طيبين، قول الله"، تناول فيه الوضعين السياسي والاجتماعي لبنانياً وعربياً بأسلوب لاذع وساخر. وهو حظي بشعبية واسعة، فحتى المسلّحين والمتقاتلين، كانوا يضعون البندقية جانبًا، ليستمعوا إلى اسكتشات الثنائي شمعون-رحباني، وما زال اللبنانيون يذكرونه إلى اليوم. وتميز شمعون بلكنته الزحلاوية وطريقته في التعبير والشرح.

وعرف عن هذا السينمائي شغفه الكبير بالكاميرا السينمائية، التي حملها ليصور بها أحداثاً مهمة ويسجل شهادات، وكانت التجربة الأبرز في هذا السياق الفيلم الوثائقي "تل الزعتر"، الذي تشارك فيه مع السينمائي الفلسطيني الراحل مصطفى أبو علي والمخرج الإيطالي بينو أدريانو. ويشكل الفيلم وثيقة مهمة عن المجزرة التي ارتكبها حزبا "الكتائب" و"الأحرار"، بدعم من جيش النظام السوري، ضد الفلسطينيين واللبنانيين في المخيم القريب من بيروت في 12 آب 1976. وفُقد الفيلم الذي يبلغ طوله قرابة 15 متراً من المادة الخام، أثناء الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، قبل اكتشاف نسخة منه في أرشيف الحزب الشيوعي الإيطالي في روما. وعملت المخرجة الألمانيّة مونيكا ماورو على تحويله إلى موادّ "ديجيتال"، ليسهل تنقّلها وعرضها في أماكن مختلفة. وعُرض "تلّ الزعتر" للمرّة الأولى بعد ضياعه، العام 2014، في "مهرجان الأفلام الفلسطينيّة" في لندن، ثمّ عُرض، وبعض الموادّ الأصليّة في الأردن وفلسطين. مسار إنتاج هذا الفيلم، وفقدانه مع أرشيف الأفلام من بيروت، في وقت بين 1982 و1985، واستعادته مرّة أخرى العام 2011، يحكي قصصًا أكثر عن رواية فلسطينيّة كادت أن تمحى.



مي مصري وجان شمعون
كان شمعون شديد الإيمان بالسينما الوثائقية، وهذا أمر على صلة بمواقفه الأخلاقية وقناعاته السياسية، لما للوثيقة من قيمة في تسجيل الوقائع والأحداث. وفي كل أعماله يظهر شمعون صاحب مواقف، يعبر عنها بصراحة شديدة، حتى اعتبره البعض متطرفاً وحاداً، وبالنسبة إلى البعض هو من زمن آخر، لكنه لم يغير موقفه أو يبتعد عن الدرب الذي رسمه لنفسه، وعمل بنَفَس طويل، وتوجه راديكالي، وظل مقتنعاً بضرورة مواصلة المعركة مهما كلّف الثمن، ورغم ذلك، فإن أفلامه الوثائقية مشغولة بحرفية عالية، ولم يضعفها أنها حملت بُعداً نضالياً واضحاً. وكان يرى في السينما "رسالة" منذ أول عمل "تل الزعتر"، وهذا ما ترجمه في أعماله اللاحقة كافة، واعتمد على سينما الذاكرة، حين أنجز مطلع العام 2000 فيلمه الروائي الطويل الأول، "طيف المدينة"، والذي كتب له السيناريو وأخرجه بنفسه، ومن خلاله يبعث رسالة تؤكد على اهمية ذاكرة الحرب من أجل تجنبها مستقبلاً، وهو ما يذكره على لسان سهام، إحدى شخصيات الفيلم (تقوم بدورها كريستين شويري) إذ تقول "من يراهن على النسيان يؤسس لحرب جديدة"، طارحاً تساؤلاً مفاده: "ماذا جنينا من قتل بعضنا البعض، وهل نلنا سوى الذل والتقهقر الى الوراء، لاهين بما رماه لنا الاستبكار، محققين هدفه بتفرقتنا، فبدلاً من قتله قتلنا أنفسنا، ولم يبق منا سوى طيف وشبه وجود، بل إنه خيال لبناء وطن نحاول إعادته للحياة؟".

وفي هذا الفيلم أحدث شمعون أيضًا رابطًا، بين الحرب الأهلية ومرحلة ما بعد الحرب في لبنان، واستعان ببعض الصور المؤرشفة للحرب الأهلية اللبنانية. وقال حين عُرض الفيلم في بيروت "التجربة التي عشتها في المرحلة التسجيلية أفادتني كإنسان. كنت أحتك بالواقع وأرى تفاصيله، وكنت الشاهد بواسطة الكاميرا. كانت مدرسة لي، خصوصاً في مرحلة الحرب القاسية والطويلة. رحت أُراكم. ثمة أمور تحصل أمامك تستلزم سرعة تعامل معها، والسينما التسجيلية قادرة على ذلك. أعتبر السينما وسيلة تعبير تسجل للتاريخ أيضاً". يقول الفيلم أيضاً، إن للجيل الجديد الذي لم يعش سنوات الحرب، الحق في معرفة ما جرى، لا سيما أن الكثير من القضايا الشائكة التي أفرزتها تلك الحرب لم يُحلّ بعد، بل ما زال المجتمع اللبناني يتخبّط فيها حتى يومنا هذا. 

ويظهر تركيز شمعون على حضور المرأة الايجابي رغم محدودية دورها في الحرب، ولذلك أولى أهمية كبرى إلى إطلاق مبادرات أهلية كانت غالبًا بقيادة نسائية، هدفها البحث عن الحقيقة والعدالة للأشخاص المفقودين أثناء الحرب الأهلية. واعتبر بعض النقاد أن سيناريو الفيلم يستلهم شخصية سهام من قصة حياة وداد حلواني التي أسّست لجنة عائلات المخطوفين والمفقودين في لبنان وتولّت رئاستها. ويجدر الذكر أن حلواني ظهرت في الفيلم وأدّت دور إحدى النساء، اللواتي يشكّلن جزءًا من هذه المبادرة الأهلية أثناء تنفيذ وقفة احتجاجية أمام مقرّ إحدى المليشيات.

صحيحٌ أن هذه محاور تطرّقت إليها أيضًا أفلام أخرى حول لبنان، لكن فيلم شمعون يبرع، بل يتفرّد، في تناوله مواضيع تذكّر المُشاهد بالميول السياسية للمخرج وتكشف عن مدى اهتمامه بالقضايا الإنسانية. وما زال الفيلم، حتى بعد أكثر من 20 عامًا على عرضه، على صلة وثيقة بالأحداث الراهنة، لا سيما بالنسبة للأجيال التي لم تعش الحرب ولم تذق مرارتها. لذا، من المؤسف أنه غير متوافر في شبكة "نتفليكس" في الشرق الأوسط، رغم أن الشبكة عرضت عشرات الأفلام اللبنانية مؤخرًا.

وتعتبر تجربة جان شمعون اللبناني ومي المصري الفلسطينية جديرة بالدراسة، فهما عاشا معاً شراكة في الحياة والكاميرا منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي. أنجبا ابنتين، وعملا على العديد من الأفلام بشكل مشترك، من كتابة السيناريو والتصوير والاخراج والانتاج. ونجحا في أن يحققا منجزاً مهماً. وحاز العديد من هذه الأفلام على جوائز مرموقة في مهرجانات دولية وعربية. وتناولت غالبية الأفلام موضوعات فلسطينية ولبنانية، وتطور مشروعهما من صناعة أفلام وثائقية، وكانت البداية من "تحت الأنقاض" الذي وثق تجربة حصار بيروت العام 1982، وأنجزا أربعة أفلام إخراج مشتركة (تحت الأنقاض- زهرة القندول- بيروت جيل الحرب- أحلام معلقة). وبقية الأفلام فيها عمل مشترك، لكن ليس إخراجاً متشركاً.

تقول مي عن جان في شهادة بعد رحيله "اكتسبنا الكثير من بعضنا البعض. تجاربنا تداخلت.. رغم الاختلاف في مقاربة العمل، كان أحدنا يُكمل الآخر. جسّدنا مشروعاً مشتركاً، يتعايش فيه الإنساني والعائلي والسينمائي. لذلك كنت أستشعر بوجوده خلال التصوير.. شعور لعلّه ازداد الآن. أشعره في داخلي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها