أفلمة نصّ لإيلينا فيرانتي، ليس بالمهمة السهلة تماماً. صحيح أن كتابات فيرانتي تحتل لوائح الأكثر مبيعاً وقراءتها شائعة بين أوساط قرائية متباينة ومتنافرة إلى حدّ كبير، لكن أدبها يحمل طابعاً فنياً من الظلم تجاهله أو نفيه. تعيش كتابتها في برزخ بَين-بَين، من تلميحات غير معلنة وعلاقات غير قابلة للقراءة وأشياء غير محسومة. هناك جملة في بداية روايتها تلخّص سعيها الأدبي جيداً: "الأشياء التي لا نفهمها بأنفسنا هي الأصعب في التفسير". انطلاقاً من هذا الجوهر، صنعت غيلنهال دراما أنيقة وحسّاسة من وجهات نظر نسائية. يقفز فيلمها ذهاباً وإياباً بين مستويين زمنيين، ووسط طبيعة الجزيرة الساحرة والرائعة، ليتكثف تدريجياً في المُخطَّط النفسي لامرأة يائسة من الأدوار المنوط بها تأديتها.
كتبت فيرانتي في صحيفة الغارديان العام 2018 أنها أعطت غيلنهال حقوق روايتها بشرط واحد فقط: إذا أخرجت الفيلم بنفسها. "من المهم بالنسبة إلي، بالنسبة إليها، لجميع النساء، أن يُكلل مسعاها بالنجاح". في الواقع، فيرانتي وغيلنهال يصلحان كفريق أحلام، مؤلفة ذات وجهة نظر لا هوادة فيها عن جنسها، وممثلة دعت لسنوات إلى ضرورة وجود وجهات نظر نسائية جديدة في السينما. "الابنة المفقودة" هو خلاصة هذه النظرة الأنثوية، ليس كموقف أو سلوك، لكن الأهم من ذلك كتعبير وإبانة وأسلوب.
في انشغال عمل كلتيهما بنظرة أنثوية، يظلّ الرجال شخصيات هامشية في هذا الفيلم، يدفعون بالحبكة إلى الأمام باعتبارهم مغازلين وطالبي وصال أو تهديدات كامنة. ليدا دائماً في المركز، تلاصقها كاميرا هيلين لوفار، وتحمل ثقل الحكاية بأدائها الرائع. على وجهها يمكن للمتفرج أن يقرأ كل فنّيات كتابات فيرانتي: تناقضات الشخصية الرئيسية وتوترها واضطرابها الداخلي. ترى غيلنهال شخصياتها الأنثوية بشكل أكثر حباً وأكثر تساهلاً من فيرانتي. لكن تفاعل الكاميرا والمونتاج، الماضي والحاضر، يجعل درع ليدا شفافاً؛ يفضح المشاعر غير المعالجة.
صورة الأمومة المتناقضة حاسمة في عمل فيرانتي، كما سيتبيّن لاحقًا في رباعيتها النابوليتانية الشهيرة. هنا تتجسّد معضلة المشاعر المختلطة وأثقال الأمومة وأعباء الاختيارات الحياتية في هيئة دمية أطفال. تجد ليدا دمية إيلينا على الشاطئ وتقرّر الاندفاع للاحتفاظ بها. تمرّ أيام تطوِّر خلالها الدمية حياة تخصّها: تختفي، وتعود للظهور، وتتسرّب منها مياه قذرة، وفي وقت ما تأخذها الديدان مستقراً لها. حتى أن ليدا تشتري لها ملابس جديدة، لكنها لا تفكر في إعادتها إلى صاحبتها اليائسة والغاضبة بسبب ضياع رفيقة لعبها. إغراق الطفلة في معاناة لا تستحقها، يمثّل انتقاماً رمزياً من ابنتيها، ووسيلة لاستعادتهن، طريقة لتصبح هي نفسها طفلة، دافع خالص لإعادة تنشيط الشعور بالذنب؟ لا يجيب الفيلم، لكننا نعلم: اللاوعي قارة مظلمة.
منذ اللحظة التي يشتعل فيها الصراع من جديد، تبدأ المرأة التي تحمل اسم إحدى أساطير الميثولوجيا الإغريقية ("ليدا والبجعة"، وبدورها هي موضوع قصيدة ويليام بتلر ييتس، الحاضرة في الفيلم)، في أن تغزوها ذكريات ذلك الماضي وكأنها حاضرة لا تزال. الحياة الزوجية (كما صار معتاداً في السينما المعاصرة، تبدو شخصية الزوج مائعة)، والبنتان اللتان تحوّلان المنزل في ثوانٍ إلى جحيم، والدعوة إلى مؤتمر أدبي، وحضور أحد هؤلاء الكتّاب المبجّلين كآلهة تعيش بيننا (بيتر سارسغارد، بلحية مشابهة لتولستوي)، وفرصة العيش ليلة واحدة في هذا الأوليمبوس، قبل العودة إلى الأرض. كما الرواية، يعيد الفيلم النظر في قدسية الأمومة، ومراجعة العديد من المسلّمات بشأن مؤسسة الأسرة عامة.
لكن بعيداً من اقتباسات الأدب الرفيع والأسطوري، فإن الصراع الذي يطرحه "الابنة المفقودة" هو صراع أرضي بامتياز، والتأسيسات المفسّرة لولادة الذنب لدى ليدا، من الناحية السينمائية، لا تبدو مقنعة تماماً. رغم ذلك، فموضوعا "صراع الأم والابنة" و"هل يجب أن أنجب أطفالاً أم لا" سيجدان جمهوراً على أي حال. هناك أيضاً بعض الحبكات الفرعية - أو الأجنة الدرامية إذا جاز التعبير - تبدو موجودة فقط لإكمال ساعتين من الزمن هي مدة الفيلم. باقتباساته الميثولوجية والأدبية، وبطلته الأكاديمية، وسرده ثنائي الزمن، وموضوعه المعقّد وغير المريح نسبياً، وأصله الأدبي.. "الابنة المفقودة" هو نوع الفيلم الذي غالباً ما يُقال إنه يبدو أوروبياً أكثر منه أميركياً. في النتيجة، فإن فيلم غيلنهال سيقتنص دور الفيلم المستقل في جوائز الأكاديمية لهذا العام وسيرشّح لأربع جوائز أوسكار على الأقل: أفضل فيلم، إخراج، سيناريو مقتبس، وممثلة رئيسية.
رغم ذلك، فـ"الابنة المفقودة" يبقى أطروحة حسّاسة ومفجعة عن الاستقلال، والأمومة، والمسؤولية في العلاقات الأسرية، والإغراءات، والتضحيات التي يتطلّبها النجاح المهني، والشعور بالذنب الذي تولّده العديد من القرارات البعيدة من العُرف والصواب، وعن الآثار والجروح والصدمات التي تبقى مع الوقت. بعيداً من جمال الموقع، لا تغرق غيلنهال ولوفار، في شروق الشمس أو غروبها. بعيداً من أي رونق، تذهب المخرجة إلى أعمق أجزاء شخصياتها وأكثرها تناقضاً وحدّة، أبعد من السيكولوجيا الأحادية السائدة هوليوودياً، لتنجز باكورة إخراجية تكرّسها صوتاً يستحق الاستماع إليه.
(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها