الخميس 2021/09/23

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

محمد خضير... الكاتب الثمانينيّ (سكيج قصصي)

الخميس 2021/09/23
محمد خضير... الكاتب الثمانينيّ (سكيج قصصي)
صورة من الحرب العراقية الايرانية
increase حجم الخط decrease
رجل متقاعدٌ من الحرب التي انتهت في آب 1988، يجلس على قارعة الطريق، في مقهى الرصيف (قد يكون كاتباً). القبعةُ المخرومة، النظارةُ المشروخة، دورقُ الماء البلاستيكي، في موضعه المعتاد على المنضدة، منضدة الرصيف. الحافلةُ المُتضعضِعة نفسها تدنو من منضدة الرجل (الكاتب) وتقف حيال المقهى. هي فارغةٌ أيضاً، السائقُ يترجّل ويتّجه إلى مقدّمتها. الإطارُ المثقوب نفسه، مصادفة! يترخّص من الرجل المتقاعد ويشرب من الدورق البلاستيكي. 
يقول المتقاعد: "هل أساعدك؟". 
يقول السائق: "لقد ساعدتْني بالأمس. الإطار نفسه". 
يستبدل السائقُ الإطارَ المعطوب، ويشرب جرعةَ ماءٍ من الدورق: "هل أقلّك معي إلى البيت؟". 
"لا. ما زال الوقت مبكراً للعودة. ربما غداً عندما تعطل سيارتُك في هذا المكان". 
يضحكان، وتتحرّك الحافلة بتثاقل. 

*****
رجلٌ هرِم، قاربَ التسعين أو تعدّاها (متقاعدٌ من الحرب الثمانينية نفسها، ولستُ واثقاً من أنّه كاتبٌ هذه المرّة) يجلس في المكان نفسه، في المقهى الصيفيّ، على قارعة الرصيف. تتوقّف سيارةٌ حديثة الطراز، يهبط منها شابّ جميل الملامح، ويتّجه إلى الرجل الهرِم، ويحتلّ الكرسيَّ المقابل الفارغ، بعد أن رفع إلى جبهته ظرْفَ رسالةٍ ظلّ يُمسِكه بيده. 
لا يردّ الرجل تحية الشابّ الإيمائية، لكنّه ينطق بلهفة: "كنتُ بانتظارك، هاتِ الرسالة". 
يقول الشابّ مرِحاً: "كانت مهمّتي أثقلَ من جبل". 
يقول الآخر: "أكادُ أتخيّل وجه أبيك، سائقَ العربة الخرِبة، كان سيصلّح إطارَ سيارته قرب منضدتي ثم يشرب جرعةَ ماء، ناصحاً لي بعدم المكوث طويلاً في المقهى، فالوضع يزداد خطورة". 
يُعقِب الرجلُ الهرِم كلامه بضحكة جوفاء، ثم يومئ بالانصراف، من دون تحيةِ وداع للشابّ المذهول (لقد حصل أحدُهما على موضوع لقصّته، لو كان كاتباً).

*****
ستبعث الحربُ _ أيّة حرب؟_  رجلاً يجلس في المكان نفسه، على حافة الرصيف؛ وسيتغيّر الرسولُ الذي يأتي بالرسائل، ويشرب من الدورق نصف الممتلئ. السيارة القديمة قد تُودَع في مقبرة العجلات، ظاهرَ المدينة، ومن ثمّ تأتي بدلَها عجلةٌ من موديل حديث (ولا بأس أن يحتفظ الكاتبُ الثمانينيّ بالموديل القديم _ نفسه_ في خياله).

المشهد يتكرّر عاماً بعد عام، وسيدور الحديث المرسوم في ذهن الشخصية الأولى (الثمانينيّ الراحل) مراراً وتكراراً، لكن بمحتوى جديد، يؤدّيه الفتى_ المراسلُ الأخير، بوسيلة أخرى مُستحدَثة:
  _ كنت بانتظارك. هاتِ ما تحمله.
  _ لا أحمل رسائل جديدة يا رجل. سأنقلك معي للبيت إذا أحببت.
  _ لماذا؟ أتقصد أنّك سئمتَ الدَّور؟ هل سيُغلِق مقهى الرصيف أبوابه؟ أسمعت خبراً جديداً؟ ماذا حدث؟
  _ لا أظنّ شيئاً تغيّر. ثمة شعور يخامرني بأنّك لستَ الشخصَ المقصود هذه المرة.
  _ ماذا تعني.. ألن تشرب من دورقي؟ مَن المقصود إذن؟
  _ لستَ سوى شبح، في مدينةٍ ملأى بالرجال المتشابهين.
  _ لا يوجد شخص بانتظارك غيري يجلس على هذا الرصيف، ويتسلّم رسالةً من قرينه الأول الذي يشبهه.. ربما قلتَ حقاً من أنّنا نعيش في مدينة أشباه.. هاتِ وامضِ في سبيلك. سأغفر لك هذه المَزحة.
  _ لا أمزح يا جدّي. أنت صورة من أرشيف الموتى.
  _ يا للزمن الذهبي، وعجلاته المتمهّلة! اشربْ قدحاً في الأقلّ، حتى أقول أنّي شخص غير منسيّ.
  _ ألم تلاحظ أنّ الدورق فارغ؟ وأنّ خيوط العناكب نسجَت حولك ستارةً من كلمات الرسائل السابقة؟
  _ كفى، أيّها الشابّ. رأيتُ ما هو أكثر رعباً من وصفكَ هذا.
  _ إنّها بلاد الرعب، جدّي المتفائل! عيناك هما كذلك خاويتان منذ ذلك الموعد البعيد.. سأنادي صاحب المقهى ليحملكَ إلى سيارتي.

*****
ستشطب الحربُ_ أيةُ حربٍ آتية، لا اعتراض_ المقطعَ السابق من التخطيط السريع لبلاد الوجوه المتشابهة، كما شطبَت ذكرياتٍ كثيرة، ومزّقت الرياحُ بيتَ العناكب وكلمات الرسائل التي اصطادها في نسيجه، ثم تُعيد رجلَ الثمانين الى مقعده في مقهى الرصيف، ليبدأ دورةً أخرى من الانتظار_ انتظار رسالةٍ من قرنائه الماضين_ إنّما سيحدث تغييرٌ بسيط_ كما يقتضي تمرين الحرب هذا. لن يَقدِم أحدٌ برسالة جديدة، أو تتوقّف أيّة عجلة بجوار الرصيف، من أيّ طراز.. وأخيراً، سيرى الرجلُ الثمانينيّ في بريده الالكتروني، المخترَق، تنبيهاً بضرورة تغيير كلمة المرور.

(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها